ربما لم تكن مصادفة اختيار الصهاينة شهر نوفمبر لعقد الانتخابات الداخلية الخامسة (الكنيست)، وسط الصراعات الداخلية، والتناحر الدنيء بين الأحزاب الصهيونية المتصارعة على الفوز بسدة الحكم في الكيان، هذا الكيان المسخ السرطاني الذي استطاع الصهاينة في الثاني من نوفمبر الأليم عام 1917م قبل 105 أعوام أن يحصلوا من الاحتلال البريطاني على قصاصة ورقية (وعد) تعطيهم رخصة في سرقة أرض فلسطين والسيطرة عليها، وقتل شعبها، وتشريد أهلها، وسرقة التراب والتراث والشجر والسماء، وتهويد المقدسات، إذ سوق الصهاينة الأكاذيب والافتراءات عن أرض فلسطين المباركة وشعبها الكنعاني العربي الأرض، من أبرز هذه الافتراءات (فلسطين أرض بلا شعب).
توافق هذه الأيام في الثاني من نوفمبر ذكرى وعد بلفور المشؤوم.. ذكرى مرور 105 أعوام على القتل والإجرام الصهيونيين بحق شعبنا الفلسطيني وأرضه المباركة الطيبة. إنها ذكرى بداية الاستيطان اليهودي لأرضنا الفلسطينية، حيث كثف الصهاينة منذ تاريخ الوعد المشؤوم الاستيطان على أرض فلسطين، وخاصة في شمال فلسطين، بل وعمل اليهود الصهاينة على تطبيق بنود المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897م، وهي تكثيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتأمين الدعم والمساعدات لليهود؛ فلم تتوقف يوما الهجرة اليهودية، ولم يتوقف الصهاينة يوما عن سرقة السلاح والذخائر من البريطانيين والفرنسيين، وتشكيل العصابات العسكرية الصهيونية وذلك استعداد لتهجير شعب فلسطين وقتلهم وتشريدهم من أرضهم وديارهم؛ حيث رسم الصهاينة الخطط لحرب نكبة فلسطين عام 1948 وقتل الآلاف من الفلسطينيين، وتشريد أكثر من مليون فلسطين، وتدمير أكثر من (550) مدينة وقرية فلسطينية.
إن المخطط الصهيوني لتهويد فلسطين بدأ من عام 1917م فور استيلاء البريطانيين على القدس في التاسع من ديسمبر 1917م، حيث بدأ الصهاينة بعد هذا التاريخ بخطوات عملية وبرامج بالتعاون مع البريطانيين لتنفيذ الوعد المشؤوم، حيث عمد الصهاينة للضغط دوما على حكومة الاحتلال البريطاني منذ أجل فتح أبواب الهجرة على مصراعيها أمام اليهود، والبدء في تشكيل العصابات اليهودية الصهيونية والاستفادة من البريطانيين في خياراتهم العسكرية التي خاضوها بالحرب العالمية الأولى وغيرها من الحروب، في حين بدأت الاتصالات الصهيونية في أعقاب الوعد المشؤوم بتشكيل لجان صهيونية يهودية تعمل جنبا إلى جنب مع الإدارة العسكرية البريطانية في حكم فلسطين، وذلك لكي ينفذ الصهاينة مخططاتهم الخبيثة في السيطرة على فلسطين، وتنفيذ الخطط العسكرية لقتل الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه.
إن بريطانيا يجب أن تعتذر اليوم للعالم والمجتمع الدولي، والفلسطينيين خاصة عن هذه الجريمة الكبرى النكراء، وعن هذا (الوعد) المشؤوم، الذي منحت بموجبه بريطانيا دولة الاستعمار (الحق لليهود) في إقامة (وطن قومي) لهم على أرض فلسطين، حيث أعطت ما لا تملك لمن لا يستحق، وأسّست منذ حينها مأساة مستمرّة للشعب الفلسطيني، قامت على أساس تهجيره وقتله وإقامة أبشع المجازر الإنسانية والدموية بحقّه.
لقد جعل تصريح بلفور المشؤوم أرض فلسطين وطناً لليهود الصهاينة وهم ليسوا سكان فلسطين، حيث لم يكن في فلسطين من اليهود عند صدور التصريح سوى القليل القليل من المهاجرين؛ في حين كان يسكن فلسطين أكثر من مليون فلسطيني يطورون حياتهم في بادية وريف ومدن وقرى ويعمرون هذه الأرض الطيبة؛ ويواجهون الغزاة المحتلين؛ ولكن الصهاينة حققوا حلمهم في هذا الوعد المشؤوم، وها هم وبعد انتصار دول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى واستئثار بريطانيا بفلسطين، وبدء تنفيذ المخططات الصهيونية للسيطرة على أرض فلسطين واحتلال شعبها ونهب خيراتها وثرواتها.
إن هذا التصريح المشؤوم يتعارض مع أحد أهم مبادئ القانون الدولي، ألا وهو مبدأ حق تقرير المصير الذي طالما نادى به الحلفاء، وادعوا أنهم منحازون إليه وساعون إلى تطبيقه في كل مكان؛ ولكن هذا التصريح تنكر لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، ولا نزال نعيش تداعيات هذا الظلم التاريخي حتى هذا اليوم.
إن جريمة بلفور النكراء ما زالت مستمرة، وآثارها متواصلة بحق شعبنا وأرضنا بصورة يومية، إذ يستمر الصهاينة في جرائم القتل والتهجير والتشريد والتهويد والاستيطان، واستباحة المقدسات دون رقيب أو حسيب؛ وتستمر هذه الجريمة، ويواصل الشعب الفلسطيني كفاحه ونضاله حتى تحرير فلسطين من دنس الصهاينة والمحتلين الغزاة، بل وستفشل كل مشاريع التوطين الإسرائيلية، وستفشل كل المخططات الهادفة لضرب مشروعنا الوطني الفلسطيني التحرري، وستبقى راية الكفاح مشرعة، وسيبقى شعبنا الفلسطيني متمسكا بحقوقه غير القابلة للتصرف في الحرية والاستقلال والعودة، حتى تحرير أرضنا وإقامة دولتنا المستقلة على التراب الفلسطيني كاملًا.