لا يزال نهج الإقصاء حاضرًا لدى رئاسة السلطة، وما زالت الإشكالات تتسع دائرتها في ظل هيمنة وتفرد الفريق المتنفذ في السلطة وصاحب التأثير في رئيسها، ولا سيما في ظل تغييب المجلس التشريعي عن دوره، بل وإقصائه من مشهد إدارة الحكم، وهو ما فتح الباب أمام المتنفذين بتفكيك المؤسسات التي تشكلت وفق عملية ديمقراطية، وهو ما ينذر بكارثة جديدة على غرار الانقسام المستمر منذ ما يزيد على أربعة عشر عامًا.
إن النهج الديمقراطي يعد أحد مراكز القوة في أي نظام في العالم، ومن خلاله تصاغ مفاهيم إدارة الدولة والنظام، وتحييد الفساد، والعمل وفق قيم وسياسات تضمن استخدام الأدوات الديمقراطية في كل مستويات النظام السياسي، وهو ما ينتج عنه دمقرطة النظام شموليًا، بعيدًا عن أي حالة تفرد أو إقصاء أو بناء مؤسسات شكلية موازية، أو استخدام السلطة لحسابات خاصة وأجندات خارجية، ما يضمن لأصحاب الكفاءات أن يكونوا على رأس السلطة، والعمل وفق القوانين التي تضمن سلامة المجتمع والحفاظ على مسار النظام الذي ينضوي تحته مصالح الشعوب.
إذ لا يزال النظام السياسي الفلسطيني متعثر البناء والتكوين، بل يكاد أن يكون بعيدًا من حيث الشكل عن أي أنظمة موازية أخرى، باعتبار أن التفرد وامتلاك السلطة ومؤسساتها وتحييد معظم أبناء شعبنا عن التدخل في إصلاحها أو التعرف إلى إشكالاتها بالحد الأدنى يعطي صورة نمطية عن هشاشة هذا النظام، وعن ضعف مقوماته في الوقت الذي يعترف به معظم دول العالم كامتداد لعملية التسوية التي نشأت بعد اتفاق "أوسلو" ونيل السلطة اعترافًا رسميًا دوليًا وعربيًا، وهو ما كان من المفترض أن تعمل هذه السلطة على الحفاظ على المشروع الفلسطيني الذي يدعم المقاومة ويدعم الخيارات الأخرى التي تمنح الفلسطينيين حقوقهم، بما فيها حق إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، والحق في مقاومة الاحتلال، مقاومةً شاملة، لاسترداد كل الحقوق في المرحلة الأخرى.
لكن ما نراه اليوم هو خروج عن الحالة الوطنية، ومحاولات من خلال مؤسسة الرئاسة للسيطرة على مفاصل العمل الأهلي والنقابي والخاص، وهي مؤسسات تأتي في المرتبة الثانية بعد المؤسسات الحكومية، وتؤدي دورًا رئيسًا في تنظيم بناء الدولة، وتشكيل أجسام ديمقراطية قادرة على العمل بما يخدم القضية الفلسطينية وتقديم الخدمات لأبناء شعبنا وفق ما هو متاح ووفقًا لإمكانات وقدرات تستطيع استثمارها وتحقيق أهداف تساعد على تأمين الوجود الفلسطيني في الداخل والخارج، وتعطي الأولوية في خدماتها لذوي العلاقة وأصحاب الشأن، كالمرضى، والفقراء، والطلبة، والعمال، والمعلمين، وأصحاب المهن، وغيرهم من الفئات الأخرى المستفيدة من الخدمات التي تقدمها النقابات الفلسطينية.
إذ إن قرارات رئيس السلطة محمود عباس لا تزال تستهدف النقابات ومعظم المؤسسات الأهلية، كان آخرها نقابة الأطباء، إذ إن القرار جاء لحل النقابة التي تشكلت وفق عملية ديمقراطية نزيهة، شارك فيها معظم الأطباء في فلسطين والأردن، باعتبارها نقابة واحدة، تتمتع بالشخصية القانونية، ولها وجود في القدس وعمان، وهو ما يعزز من دور النقابة على فرض الوجود الفلسطيني والعربي في القدس، لإبقاء قضية القدس حاضرة بهويتها الفلسطينية والعربية والدينية، لكن ما جاء في القرار ينسف هذا التوجه ويعيد النقابة إلى نقطة البدايات، ويوجد بيئة غير مستقرة وخطيرة، وهي رسالة جديدة للنقابات والمؤسسات الأخرى التي خسرت فيها حركة فتح خلال الانتخابات، بإمكانية قيام رئيس السلطة بحلها وفق صلاحيات غير دستورية، وتغول ملحوظ على مؤسسة القضاء التي باتت مغيبة تمامًا عما يجري في النظام السياسي الفلسطيني.