في ظل ما تشهده الأراضي الفلسطينية من تأجج الروح النضالية والثورية في الضفة الغربية المحتلة، أُفشلت إستراتيجية "كيّ الوعي" التي انتهجتها قوات الاحتلال والسلطة الفلسطينية معًا لـ"تطويع" الضفة الغربية المحتلة، وهذا ما اعترف به رئيس أركان جيش الاحتلال، غادي أيزنكوت، بحسب وكالة صفا الإخبارية، بقوله: “إن ما تشهده الضفة الغربية من أعمال فدائية هو التصعيد الأخطر منذ عام 2005، وهو مختلف تماما عن أشكال المقاومة في السنوات الماضية، التي كانت تعتمد في غالبيتها على الحجر أو الطعن بالسكاكين في بعض الأماكن، لكن اليوم تطورت وسائلها ومخططاتها بالعمل المسلح الذي انتشر في كل مدن الضفة”.
يبدو أن الاحتلال الإسرائيلي في ورطة لا يحسد عليها، فقد لجأ منذ موجة العمليات الفدائية المتواصلة التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية المحتلة وداخل الخط الأخضر، لسلسلة من السيناريوهات والخيارات والخطط الأمنية والعسكرية والاقتصادية لمحاولة احتواء تلك العمليات، عبر تعزيز انتشار قواته في الضفة الغربية المحتلة، وزيادة تسليح المستوطنين، وهي محاولات يائسة لم تؤتِ أكلها.
فمن الأساليب التي اعتاد عليها الاحتلال عمليات تسلُّل وحداته الخاصة، وتنفيذ عمليات اعتقال أو اغتيال ضمن ما يُعرَف بـ"سياسة جز العشب"، أو”طنجرة الضغط”.. إلخ، اعتقادا منه أن ذلك يمكن أن يقضي على حالة المقاومة. ومع فشل هذه السياسة في تحقيق الهدف المنشود، اتجه الاحتلال نحو سياسة أخرى تمثلت في تقديم المزيد من "التسهيلات" عبر زيادة أعداد التصاريح، وهو ما لم ينجح كذلك، ليقرر اتّباع سياسة “العصا والجزرة” من خلال إغلاق الحواجز في أوقات تنفيذ العمليات، وفرض إجراءات "عقابية" ضد أهالي المنطقة التي ينفّذ أفرادها عمليات، كما يفعل في شعفاط وعناتا ونابلس وجنين.
فبعد أن نفد بنك أهداف وخطط الاحتلال، لم يبقَ له من خيار آخر سوى الاعتماد على الشريك الأمني له في الضفة المحتلة، أي إقحام السلطة الفلسطينية في المقدمة، وقد يعبر عن فشله بالهروب إلى الأمام من مأزق المقاومة الشرسة، باعتبار أن ما يحدث في الضفة الغربية بسبب ضعف أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، يتزامن مع تحذيرات واضحة أطلقها وزير الحرب الإسرائيلي، الذي تحدّث فيها عن ضرورة قيام السلطة بدورها وتعزيز التنسيق الأمني ووقف العمليات، لأنها ستضرّ بها، وتهدد استقرارها السياسي، وهذا اعتراف فاضح رغم كل ما تقدمه له من تعاون أمني على مستوى رفيع طوال السنوات الماضية، وقد جعلت من الضفة الغربية واحة من الهدوء.
وقد تبين للوهلة الأولى أن هذا الهدوء ما هو إلا رماد أسفله حمم من نار، فالمقاومة تتصاعد بوتيرة مغايرة تمامًا عن عامَي 2020 و2021. فمع ارتفاع أعداد العمليات خلال عام 2022، فإن عام 2021 شهد تنفيذ 80 عملية، في حين شهد عام 2020 تنفيذ 14 عملية فقط، وعام 2019 شهد تنفيذ 9 عمليات، وأما هذا العام فقد تجاوز عدد العمليات الفدائية أضعاف مجموع الأعوام الثلاثة الماضية، وفقًا لاعترافات رئيس جهاز الأمن العام "الشاباك"، رونين بار، وعليه فإن ما يجري يقلق المنظومة الأمنية والعسكرية الصهيونية، وكذلك أيضا السلطة الفلسطينية التي تعدها تهديدا لبقائها على قيد الحياة، لذا هي تحكم الضفة بتوجهات سياسية وأمنية غير متعاطفة مع المقاومة، بتبنيها نهج التنسيق الأمني المتعارض جوهريا مع أي فعل مقاوم للاحتلال، فلماذا لا يتم العمل بالمثل، بتسليم الفلسطيني للسلطة الفلسطينية كما تفعل الأخيرة في كل مرة مع المستوطنين عملا بالتنسيق الأمني، بل يعتقله في أحسن الأحوال، وفي الغالب يطلق النار عليه مباشرة لمجرد الاشتباه؟!
وبالنظر مليا للأحداث الأخيرة بعد استشهاد أربعة شهداء خلال 24 ساعة في الضفة الغربية المحتلة واقتحامات قطعان المستوطنين بأعداد كبيرة جدا المسجدَ الأقصى المبارك والعبث بقدسيته بالشعارات التلمودية المستفزة لمشاعر الفلسطينيين، وتخريب المزروعات وقطع أشجار الزيتون في موسم حصاده، ما يكلف أصحابه خسارة كبيرة، إضافة إلى الاعتداء على المقدسيين في الشيخ جراح وتخريب ممتلكاتهم ومقتنياتهم، وحصار شعفاط وعناتا، خرج الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة في مسيرات بالمئات نحو نقاط التماس مع قوات الاحتلال، إلا أن عددا من المسيرات، خاصة الكبيرة منها، واجهت حاجزا بشريا من أفراد أجهزة أمن السلطة تحول دون وصولهم إلى تلك النقاط، وفي بعض المناطق اعترضت الأجهزة الفلسطينيين ولم تدخر جهدا في قمع المتظاهرين سلميا كما حدث في مدينة الخليل الجمعة والسبت الماضيين.
من الواضح أن الاحتلال أصبح منشغلًا بصورة كبيرة فيما بات يُعرَف بـ"ظاهرة المطاردين"، المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية المحتلة ولم يحسم أمره بعد بسبب الذهول والربكة من أعمال المقاومة، وعدم معرفته من أين تأتي العملية، ومتى؟ وكيف..؟ وأيضًا طريقة الالتفاف الجماهيري حول المقاومة وانتشارها، لذلك هي عمليات وأحداث مستمرة وليست مرتبطة بأعياد يهودية، بل بدأت بجنين وانتقلت لنابلس، ومن ثم لمناطق أخرى بالضفة، وكلما كانت الاعتداءات الإسرائيلية أكثر زادت العمليات الفدائية وتطورت. وأما السلطة التي تكرر أخطاءها السابقة، ولم تتعلم من درس غزة، لكونها محكومة بالكامل بقرارات وتوجيهات الاحتلال الإسرائيلي، فهي لا تمتلك الرغبة والإرادة الحقيقيتين في تغيير سياساتها تجاه أبناء شعبها، بنبذ التعاون مع الاحتلال أمنيا.