فلسطين أون لاين

وجه لكمة للإعاقة وأصرَّ على الحياة

بالصور يوسف أبو عميرة.. بدون أطرافه الأربعة تحدَّى قانون "الكاراتيه"

...
يوسف أبو عميرة.. بدون أطرافه الأربعة تحدى قانون "الكاراتيه"
غزة/ يحيى اليعقوبي:

يقفُ المدرب مرتديًا ملابس لعبة الكاراتيه "البيضاء" يلتف حول وسطه حزامٌ أسود تتقدم قدم عن الأخرى ويمد ساعديه للأمام في وضعية الدفاع عن النفس، يتجه نظركَ للأسفل فالمتدرب هنا لاعب ولد بدون يدين أو قدمين يلتف حول وسطه حزام برتقالي يقف على أرضية اسفنجية زرقاء ويمد ما بقي من أجزاء أطرافٍ، يتحدى قانون الرياضة التي تعتمد بالأساس على استخدام اليدين والقدمين.

يوسف أبو عميرة (26 عامًا) لاعب كاراتيه يعيش بمخيم الشاطئ للاجئين في قطاع غزة، ولد بدون أطرافه الأربعة، لكنه لم يتقوقع على إعاقته، ولم ينعزل عن العالم، لم تظلم الدنيا أمامه، فنظر للحياة من زاوية الأمل، كان مؤمنًا بنفسه وبأنه يمكن أن يتحدى الإعاقة وأن يصنع ذاته، حتى بأصعب أنواع الإعاقة.

يتمرن يوسف ثلاثة أيام في الأسبوع، في كل مرةٍ يستمر التدريب لمدة ساعتين، بعد ارتداء ملابس اللعبة يبدأ بتمارين الإحماء وفي حالته تكون من خلال التدحرج والتقلب على الأرضية الإسفنجية، أو محاولة القفز قليلاً في مكانه، تحريك أطراف يديه للأعلى والجانبين والأسفل.

fda37d92-f678-4164-b6cb-6841c9fd6058.jpg
 

في مشهدٍ من التدريبات، يحمل المدرب كيس ملاكمة، يقفُ على بعد عدة أمتار عن يوسف داخل صالة الفنون القتالية في نادي المشتل الرياضي بمدينة غزة، فيضع يوسف رأسه على الأرض ويتقلب للأمام، يشجعه مدربه بحماس "يلا هيك قربت"، يتوقف اللاعب ويقفز عدة قفزات حتى يصل الكيس فيوجه لكمات متتالية قويةٍ بجزء من أطرافه، المدرب يعد "ا،2، 3 ...10" وفي نظرةٍ أبعد وجه لكمات قاضية للإعاقة التي لم تقف أمام طموحه.

هنا.. يقف المدربُ على مسافة أخرى في حركةٍ مختلفة عن السابقة، بينما يلاصق جسد يوسف الأرض (يستلقي بشكل جانبي) ويضع رأسه على طرفه، ويتقدم قفزًا حتى يصل ويمسك يد مدربه.

من الخلف يوجه المدرب ضربات للاعب الذي بدوره يتصدى بأطرافه ويبطل مفعولها في تدريب آخر، يتقن كذلك استخدام العصا التي يقوم بلفها حول جسده من أسفل رقبته، وبين أطراف يديه.

ثم يستلقي على ظهره يضع أطرافه خارج عرض الكتفين، ويحمل مقبض رفع الأثقال ليزيد قوة كتفيه، بينما يرتفع المقبض وينخفض، ينظر يوسف إلى الأفق وهو يحملُ آمالاً كبيرةً.

بعد ذلك يبدأ بمحاكاة الحركات التي يؤديها المدرب، ولكن بطريقة تناسب حالته بلا أطراف، هكذا يمضي يوسف نحو الارتقاء وتخطي الحزام البرتقالي والوصول للحزام الأسود.

يجلس على عربة كهربائية، أمامك شخص من ذوي الإعاقة ولد بدون أطرافه الأربعة، يضع كأس الشاي على جزءٍ من الطرف المتبقي ليده اليمنى ويحتسي الكوب ببراعة فلا ينسكب الماء الساخن على وجهه، وكذلك يتوازن الكأس وهو يضعه على كتفه المبتور لأكثر من ساعة دون أن يسقط، طوال مدة حديثنا معه عن شغفه برياضة "الكاراتيه".

على الطرف الأيسر الآخر يثبت هاتفه المحمول، يستطيع كتابة رسالة هاتفية نصية أو تخزين رقم هاتف محمول، أو الكتابة والرد على أصدقائه بسهولة، لكن "كيف ذلك!؟" بلا أصابع يد، وفي مهاراتٍ أوسع يستطيع إمساك القلب معتمدا على الوجه والطرف في الكتابة، وكذلك استعمال الحاسوب والمونتاج في مشهدٍ قد يدهشك إن رأيته.

 إن كان الأشخاص من غير ذوي الإعاقة لديهم أصابع يد تسهل حركتهم، فليوسف "أنف وفم" يساعدانه كما لو كانا أصابعه، يتحرك الهاتف بينهما بانسيابية ومرونة عالية، يتكيف بذلك مع إعاقته.

التحدي بدأ مبكرًا

لماذا قررت ممارسة "الكاراتيه"!؟.. قد يكون السؤال غير مهمٍ لو وجه لشخص لم يفقد أطرافه فهناك عشرات الآلاف حول العالم ممن يمارسونها، لكن الإجابة عليه قد تكون مهمة من شخص فقد أطرافه الأربعة، وربما هو الوحيد الذي يمارسها في العالم أو ينافسه لاعب أو لاعبان في ذلك.

أغلق يوسف هاتفه بحركات متناسقة بين أنفه وطرفه الأيسر، تشرق على ملامحه ابتسامة رضا وثقة بالنفس معترفًا "قررت ممارسة الكاراتيه حتى أدافع عن نفسي في حال تعرضت لهجوم من أي أحد".

قبل عامين بزغ نجم الفكرة في داخله، حينما أرسل له شخص ويدعي حسن الراعي وهو مدرب لعبة كاراتيه مقطع فيديو، للاعب ياباني بلا أطرافه الأربعة مثله ويمارس لعبة "الكاراتيه"، وعرض عليه المدرب أن يتطوع في تدريبه.

d5ddb21f-26ed-4ee2-be06-159d0a285528.jpg
 

تأخذه الذاكرة لتلك اللحظة ترقد على شفتيه ابتسامة "قلت في داخلي إنه لا يملك إرادة مثلي فلماذا لا أمارسها!".

لا زالت بداية الممارسة عالقة في ذاكرته، يقفز أمامه أول يوم ارتدى فيه ملابس اللعبة، قائلاً "شعور جميل أن ترتدي ملابس لعبة الكاراتيه، لم أكن أعرف قوانينها في البداية، وكنت أجهل الحركات، وبدأتُ تدريجيًا بمساعدة المدرب في تعلم الحركات".

لم يتحدَ يوسف قانون اللعبة فقط، بل كان عليه في كل يوم تدريب صعود نحو 60 درجةً حتى يصل قاعة التدريب، إما بالاعتماد على نفسه وبذل جهد كبير في صعود الدرجات معتمدًا على جدار الدرجات وسحب جسده للأعلى، أو بأن يقوم أحدهم بمساعدته، وهذا ما يدعوه لإطلاق مناشدة للمسؤولين، بالاهتمام به وتوفير مدرب له لتحقيق حلم بالوصول للعالم، وتوفير أندية مواءمة لذوي الإعاقة.

اختار يوسف لعبة الكاراتيه كذلك، لأجل إظهار إرادته في تحدي الإعاقة الحركية، بأن يكون قدوة ليس لأقرانه من ذوي الإعاقة في غزة فقط، بل لمن لديهم أطراف في كل دول العالم، ويرون أنهم يعيشون في جحيم، حتى أن بعضهم يفكر بالانتحار، يطلب منهم التوقف عند قصته والنظر لحاله وكيف صنع من الألم أملاً أشرقت معه الحياة، وهو يمارس الرياضة ويتخرج كذلك من الجامعة.

f6caa2b8-9fb8-4896-8ad7-14a11eff9df3.jpg
 

لم يفاجئ يوسف المتابعين فقط بل فاجأ مدربه، يقول حسن الراعي "لقد تفاجأت من قدراته، ومن العزيمة التي امتلكها ويتحلى بها، ربما لا يملكها غيره ممن لديهم أطراف، كان لديه إرادة، بأن يتحدى نفسه والطبيعة والأمر الواقع المفروض عليه والمعاناة التي يعيشها، وكذلك نظرة المجتمع التي وضعت حواجز أمامه حتى لا يصل لأحلامه واستطاع تحقيق ذاته ويحقق انجازًا شخصيًا".

لم يكن يوسف أول حالة من ذوي الإعاقة التي يدربها الراعي، فقد درب فرقًا من ذوي الإعاقة عبر سنوات طويلة، لكن حالة يوسف كانت فريدة وتختلف عن أي إعاقة ثانية دربها، و"هنا تكمن الصعوبة، إذ يحتاج إلى برامج تدريبية مختلفة ويتبقى له أربع أحزمة للحصول على الحزام الأسود".

ينظر المدرب لأبعد من كونه يريد تأهيل لاعب من ذوي الإعاقة لرياضة الكاراتيه قائلاً "أريد الوصول معه لأبعد نقطة، والوصول لمسابقات عالمية رياضية، لكن إن جرى احتضانه كوننا نجد صعوبة في التدريب، بسبب عدم مواءمة المكان، كما أن يوسف بحاجة لتبنٍ من المؤسسات الرسمية".

تعتمد لعبة الكاراتيه بالأساس على الأسلحة الطبيعية التي يملكها الإنسان، وفق قول المدرب، وتعني "الكاراتيه" الدفاع عن النفس باليد الفارغة، فتحدى يوسف قانون اللعبة بلا يدين أو قدمين.

الميدالية الذهبية الأولى

بعد فترةٍ من التدريب، كان يوسف على موعدٍ مع حصد التعب والجهد الذي بذله، نادى مقدم حفل ختام بطولة رياضة الكاراتيه المحلية وحملت اسم المتضامنة الأمريكية الراحلة "راشيل كوري" على اسمه كحاصل على المركز الأول، وتزينت رقبته بالميدالية الذهبية الأولى، وكانت أول فرحة تغمره.

بعدها بفترة وجيزة، شارك في بطولة الكويت الدولية الرياضية عبر الانترنت بسبب جائحة "كورونا"، اندهش المتابعون من اتقان يوسف لحركات اللعبة، وقبل كل ذلك من إرادته، فحصل على المرتبة الثانية.

الفرحة التي غمرته حينها، تغمر صوته مرةً أخرى الآن؛ تنبعث من عينيه نظرات أمل واثقة بالنفس "شعرت بالفخر والاعتزاز، أنني حققت انجازات بدون أطراف أمارس الكاراتيه، وهي قد تكون صعبة على اللاعبين الذين لديهم أطراف، ولا زال طموحي إكمال المسيرة وتمثيل فلسطين في بطولات دولية".

fb9f142f-70f1-4f3f-bf0d-5fd2d01d7f98.jpg
 

تواجه يوسف صعوبات عديدة، منها حاجة إلى تخفيف الوزن، فوزنه حاليًا يبلغ 100 كغم، لكي يتحرك بشكل أكثر خفةً، أطلق العنان لمناشدته متمنيًا أن تلتقطها قلوب المسؤولين الرياضيين "لدي إرادة كبيرة، وأمامي صعوبات، فأطالب المسؤولين عن الرياضة في فلسطين دعمي معنويًا واحتضاني وتوفير مدرب حتى أحقق طموحاتي".

الجلوس مع لاعب وقبل ذلك إنسان مثل يوسف، يعطيك دفعة معنويةً وأملا جديدًا في الحياة، يشحذ طاقتك نحو مواجهة التحديات، يقول لذوي الإعاقة وللأشخاص الذين لديهم أطراف: "أنا أستطيع" جملة لها مفعول كبير في النفس، إضافة للثقة بالله والنفس والإيمان بالقضاء والقدر يجعلك ترى الحياة ملونة وتخوض غمارها، أنا راضٍ بما أصابني، وهذا أهم شيء، إضافة للعزيمة والإصرار التي أمتلكها، وحب للحياة، أريد العيش، وتحقيق النجاح وتحقيق حلمي".

لم يكن يوسف معزولاً منذ طفولته عن العالم، بل سعت عائلته لدمجه بالمجتمع منذ اللحظات الأولى لولادته ولم يشعر نفسه يومًا بالنقص أو بأنه أقل من الآخرين، لكن رياضة الكاراتيه أضافت له شيئًا جديدًا وملأت وقت فراغه بعدما تخرج من الجامعة، يصف علاقته باللعبة بكلمات حبٍ انبعثت من قلبه "أستمتع، وأنا أمارس الرياضة وأشعر فيها بذاتي".

f6caa2b8-9fb8-4896-8ad7-14a11eff9df3.jpg
 

هل رأيت شخصًا بلا أطرافه الأربعة يقفز في بركة مياه، ويتحرك ويسبح ولا يغرق، إن كنت لم ترَ ذلك، فيوسف يفعلها ويمارس لعبة السباحة وحصل على دورات، ويجيد أنواعا، سواء السباحة الحرة والظهر والفراشة.

 حينما يستلقي على ظهره، وينبض قلبه بالحياة، هناك نظرة بعيدة تراه عيناه تأخذه نحو أحلامه التي يتمنى أن ترسو يومًا على موانئ المحافل الرياضية العالمية، ليقف ويحدث العالم عن نفسه، ويكون ملهمًا للملايين الذين يحتاجون كلماتٍ تخرجهم من عزلتهم، أو عندما يرون حالته ثم ينظرون للإنجازات التي حققها والصعوبات التي تغلب عليها، ليكون أنموذجًا ملهما لكل مكافح حول العالم، وإن تأخر ذلك يدرك يوسف أن الأحلام المتأخرة ستأتي يومًا.