في بريطانيا كان جاري الإنكليزي -الذي كان يكبرني بخمسة وثلاثين عامًا على الأقل، والذي كان محاضرًا جامعيًا في التاريخ العربي القديم والدراسات الإسلامية، في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. يلاطفني بأسلوب دافئ رصين، لكوني أشبه إلى حد كبير ابنه الذي كان يقيم في ماليزيا، وزوجته الأردنية...
وقد شجعني أسلوبه في معاملتي، على الحوار الذي كان معظمه يأتي ردًّا على كثير من أسئلتي المعلقة والمشحونة بعاطفة قومية مشتعلة..
وصفه، أو قل رأيه، أو تحليله، أو قل ما شئت لا يزال حاضرًا بعقلي الواعي، وعقلي الباطن، وهو:
أنتم أمة تنام ولكن لا تموت! وما علينا إلا أن نبقيكم نيامًا قدر استطاعتنا.
سألته:
لماذا كل هذا العَداء؟
وما الذي يضيركم إن أفقنا؟
أجاب:
هذا سؤال كبير، الجواب عليه ليس بسيطًا.. إنما سأحاول الاختصار بقدر الإمكان:
قبل ١٤٠٠ عام كانت أساليب وأدوات الحضارة اليونانية القديمة والرومانية التي ورثتها وأخذت عنها كل شيء تبسط نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي والديني على العالم القديم بما فيه بلادكم -العالم الذي من ضمنه الجزيرة العربية.
كان مجتمع الجزيرة العربية يتشكل من قبائل مختلفة متناحرة ومتناثرة دائمة التذبذب والانتقال والأهواء والأغراض، مفككة الأوصال متفانية في حروبها يقاتل بعضها بعضًا؛ مرة يدخلون في أهل العراق تبعًا للفرس، وأخرى في أهل الشام تبعًا للروم، ولم يكن يجمعها من الدوائر والتشكيلات الإدارية والسياسية والاقتصادية بعد سقوط الممالك اليمانية الحميرية إلا شكل بسيط ظهر في نهاية القرن السادس الميلادي بعد الغزو الحبشي للجزيرة وهو:
حلف الفضول الذي جاء مباشرة بعد حرب الفجار!
كان المشهد يبدو في منتهى الاستقرار في هذه المنطقة من العالم تحت حكم الفرس والرومان.
فجأة ظهر رجل اسمه محمد (أضيف أينما ورد: صلى الله عليه وسلم).
الذي سماه قومه:
الصادق الأمين، الذي اكتسب صفات الزعامة والشرف والرأي والعزم والحزم والحلم، والتأمل والنبوءة، فأثرت تأملاته عن عقل خصب وبصيرة نافذة توجت بالنبوة..
قام محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلى مدى ثلاثة وعشرين عامًا بإنضاج برنامج تجاوز فيه حدود المعجزات، وذلك من خلال سلوكه الشخصي، ورسالته السماوية، بتوحيد قبائل عرب الجاهلية التي كان من صفاتها الدنايا والرذائل التي ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان، وفي الوقت نفسه، كانت فيهم الأخلاق الفاضلة المحمودة من كرم، ووفاء، وإغاثة، وعزة نفس، وعزم، وحلم، وصدق، وأمانة، ونفور من الغدر والخيانة..
قام بتوحيدهم وصهرهم في بوتقة أخلاقه وتعاليمه السماوية حتى أصبحوا على ما يريد..
وما وعده لسراقة بسواري كسرى إلا كأنه يقول:
إني أصنع أمة سيكون أن ترث الأرض من بعدي...
استطاع الإسلام بوثبته الهائلة الانتصار على الروم في اليرموك (٦٣٦م) وعلى الفرس في القادسية (٦٣٨م).
ومع انكسار الروم والفرس بدأ العرب المسلمون بالتوسع والسيطرة على العالم القديم، فأصبحت الدولة الجديدة تمتد من فرنسا غربًا وشمالًا، إلى الصين شرقًا وذلك في القرن الأول من ميلادها..
إذًا، أنشأ محمد -صلى الله عليه وسلم- رجالًا يمكنك وصفهم بكل شيء إلا أنهم دون الملائكة، وذلك من خلال تقديمه لوعد معلق في السماء..
فكيف نترككم الآن لتحقيق وحدة قومية عربية إسلامية، حدودها من الغرب إلى الشرق ١٢٠٠٠ كم، ومن الشمال إلى الجنوب ٨٠٠٠ كم، بمصادر طبيعية هائلة، إن توحدت وبشعبٍ فتي إذا اقتنع سيصنع المعجزات خلال فترة نسبية قصيرة.
أنتم قلب العالم، فإذا أصبح قلب العالم سليمًا معافى تبعته الأطراف!
إذًا، ما علينا إلا إبقاؤكم نيامًا بقدر ما نستطيع، إننا لا نستطيع أن نميتكم ما دام القرآن فيكم..
أنتم أمة تنام ولكن لا تموت!
فعلينا تأجيل يقظتكم بقدر المستطاع.
نحن نصنع نخبكم السياسية والاقتصادية والإعلامية، فتكون مجبرة عن وعي ودراية أو من دونهما أحيانًا على تنفيذ ما نريد..
أخذ نفسًا عميقًا من غليونه، وأردف قائلًا:
هل أجبت عن سؤالك؟
قلت: نعم ولا ..
قال: ما هي لاؤك؟
قلت: أشرت في حديثك أكثر من مرة إلى كلمة "نحن".. فمن أنتم؟
قال:
نحن زعامة العالم، الدول العميقة في الولايات الأمريكية المتحدة، و)إسرائيل(، وبريطانيا، وأوروبا، وحلف الأطلسي، ووكالات المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية والأوروبية، وهيئة الأمم، والجمعيات السرية، والمتنورين، والماسونية، وفرسان المعبد، وأرباب المال، وتجار السلاح، وبارونات النفط، وأساتذة الجامعات...
وحتى أكون أكثر تحديدًا: المسيحية - اليهودية - الصهيونية، وكي يزداد عجبك أضيف، الشيوعية أيضا...
هذا التحالف الهائل هو الذي يقوم بتنفيذ عمله الأوركسترالي المنظم مستخدمًا وسائله الجبارة من ثقافة وإعلام واقتصاد وعسكرة وتسخير ديني للحفاظ على إبقائكم نيامًا..
همست بما يشبه الأنين:
أمة تنام ولكن لا تموت انتهى.
والله تكتب هذه المقولة بماء الذهب، ويا ليت قومي يعلمون من معهم ومن عليهم حتى تعود لأمة الحبيب المصطفى عزتها وشرفها...
وأقول:
على كل واحد منَّا، أن يربي نفسه، ويربي أبناءه وأهل بيته على الإسلام، ومن حوله قدر الاستطاعة، ويستعد لنهضة هذا الدين من جديد، وأبشر فإنه قريب.