كان لي شرف الكتابة عن الأمهات الأسيرات في رواية "أمهات في مدافن الأحياء" سنة ألفين وثمانٍ، ثم أعدت الكرَّة للكتابة عن نموذج خنساوي فريد برواية سمّيتها "فرحة"، وهي عن الحاجة فرحة البرغوثي أم ولديها الأسيرين اللذين قضيا في السجن قرابة خمس وستين سنة: عمر رحمه الله ونائل وهي أخت الشهيد وجدة الشهيد، وما زال سؤال يقضُّ مضجعي: هل نجحت في رسم الصورة التي تليق بهذه المرأة الفلسطينية العظيمة؟
نحن لا نتحدّث عن امرأة تجود بشيء من مالها أو امرأة تنتمي لقضية عادلة فتقدّم جزءًا من جهدها ووقتها في خدمة هذه القضية، لا نتحدّث عن صبر على الشدائد والابتلاءات ولا قوّة العزيمة وعلوّ الهمة والإرادات النبيلة الساكنة في أعماق هذا الصنف من النساء، نساؤنا اكتنزت نفوسهن بكل هذا وبطريقة مميّزة وفريدة وحقّقت درجات عالية وتبوأت قممًا سامقة ندر أن يصل إلى مثلها أحد.
وإذا تبوأت الخنساء قمة عالية وعبرت التاريخ لتكون نموذجًا للروح المجاهدة والمضحيّة بأعزّ ما تملك فيستشهد أبناؤها الأربعة في سبيل القضية التي تؤمن بها وترضى بذلك رضى تامًّا دون شكوى أو إظهار ألم، بل جسّدت الخنساء حالة الصبر الجميل والرضى عمّا أصابها بحبّ وفخر واعتزاز، اليوم نرى هذا النموذج يظهر من جديد قولًا وعملًا وبطمأنينة نفسية عالية، وهذا بالطبع لا ينفي الألم وقسوة لوعة الفراق والفقد، ولكن ما يجول ما في هذه الصدور من برد اليقين ومشاعر الإيمان برب كريم والانتماء للقدس وفلسطين يحاصر الألم ويصبُّ عليه ما يسكّنه ويخرج للناس أجمل ما في هذه النفوس من صدق وارتقاء وروح عالية تناطح السحاب.
ومع الزيادة الكبيرة لعدد الأسرى والشهداء برزت الخنساء الفلسطينية بكل جدارة ما يبهر قلوب الناس وتجسَّدت هذه الخنساء بالآلاف، فالأمهات الثكلى القادرة على إضاءة سماء العالم بروحها العالية الجميلة نجحت في رسم أعظم صورة ترسمها أمّ في سجلّ التاريخ الراصد لهذه التجليّات العظيمة، وأصبح في كل قرية وحيّ ومخيم ومدينة منارات لأمهات ماجدات استطعن الحفر الجميل في ذاكرة هذا الشعب ما يحيي روحه ويشدّ عضده ويرفع رأسه عاليًا ويمدّ عزائمه ما يجعله حيًّا وقويًّا وشامخًا باستمرار.
والعجب العجاب أن تجد من يجعل من مآثر هذا الشعب العظيمة محلًّا لهجومه النكد، تمامًا كما حصل مع ظاهرة النطف المهربة من حيث إنها مأثرة وإبداع فلسطيني بامتياز فوجدت من يصنع فيلمًا ليشوّه هذه الصورة العظيمة، وهكذا النضال الفلسطيني وصراع الأدمغة التي شقّت طريقه المقاومة الفلسطينية في ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد وأمام إمكانات هائلة للأعداء، هذا النجاح المبهر والملهم تجد من يقف أمامه باستخفاف وسخرية واستهزاء.
والمطلوب هو أبعد من الإقالة والاعتذار، هذا يضعنا أمام السؤال الوجيه: من قدّم هؤلاء لمثل هذه المواقع الحسّاسة؟ وكيف يتم الاختيار؟ وعلى أيّ أساس؟ عندئذ نجبّر قبل أن تُكسر، أما أن ننتظر بين الحين والآخر لتظهر لنا مثل هذه الإساءات البليغة ثم نتنادى لإصلاح الكسر فهذا أمر أصبح صعبًا وأصبح فتقًا اتسع على الراتق.
أمهات الشهداء والأسرى أعلى مقامًا، كالنخلة الباسقة أو الزيتونة المباركة دائمة العطاء والثمر ولا تأبه بمن لا يرى ثمرها ولا يدرك جلال قدرها، عاكفة على العطاء وتعطي أعزّ ما تملك دون انتظار لجزاء أو شكر من أحد، قلبها معلق في القدس وبوصلتها لا تحيد أبدًا، تزرع أعلى القيم وتستنبت في نفوس أبنائها عشق الدين والوطن، مستعدة لدفع الثمن لأن تحرير الأوطان لا يتم إلا بمثل هؤلاء الأماجد وبالمزيد من الخنساوات الحرائر.