انتهى اليوم الأول لاقتحام المتطرفين الصهاينة المسجد الأقصى، ولم ينتهِ الخطر المحدق بالقدس، فنظرة الصهاينة للقدس تتعدى الاقتحام، وتتجاوز النفخ بالبوق، وتقديم القرابين للتقرب لروح الرب التي ستنزل في المكان، كما يزعمون، نظرة الأعداء للمسجد الأقصى نظرة بعيدة المدى، فطالما كان معتقدهم يقول: إن المسجد الأقصى أقيم على أنقاض هيكلهم، فالهدف النهائي للعدوان الصهيوني هو إزالة المسجد الأقصى، وتدميره نهائيًّا، وإقامة جبل الهيكل المزعوم مكانه، وهذا يحتاج إلى وقت، وإلى التهيئة النفسية والميدانية.
سيظل الهجوم على المسجد الأقصى هو العنوان للغزوة الصهيونية على البلاد العربية، والمنطقة كلها، فجبل الهيكل المزعوم هو المعتقد الذي يلتف من حوله كل اليهود، وهذا هو الأساس الذي قامت عليه دولتهم، فاليهود لم يجتمعوا على أرض فلسطين من أجل رغيف الخبز، ولم يلملموا شتاتهم من أجل العيش في أرض اللبن والعسل، وإن كان ذلك من أهم مقومات الحياة، اليهود لملموا شتات نصفهم من أجل معتقدهم، وظل أكثر من النصف خارج أرض فلسطين، ولا يمكن لملمه البقية إلا من خلال المعتقد، فهو نقطة الاستقطاب لاحتلال هذه البلاد، والانطلاق منها إلى ما هو أبعد من أرض فلسطين، إنهم يحلمون بتوحيد كل الأديان والمعتقدات خلف معتقدهم المزعوم، بل يسعون وفق مصطلح "تيكون هعولام" الذي يعني إصلاح العالم -وقد ورد في إعلان القدس الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي بايدن، جملة "تيكون هعولام" بالنص العبري- وتقوم فكرة إصلاح العالم على توحيد المعتقد، ولا يتحقق ذلك إلا بعد تدمير كل الأديان والمعتقدات الأخرى على وجه الأرض، ليسود المعتقد الواحد، ورب إسرائيل الواحد، وقتها يتم إصلاح العالم وفق العقيدة اليهودية.
"تيكون هعولام" فكرة صهيونية قديمة، ترجع لأكثر من ألف سنة، عمل من أجلها الصهاينة مئات السنين، وخططوا لها عبر البلدان التي ارتحلوا إليها، ومن ضمن أساليبهم لإصلاح العامل، توظيف رأس المال في دعم الكثير من الجمعيات والمؤسسات، وتقديم المساعدات الوهمية التي تعمل في خدمة فكرتهم، وتقوم على الإفساد، وخلق عالم جديد، عالم تموت فيه النفس البشرية الصالحة، ويسود فيه الجشع، والتفرد، والأنانية، عالم تذوب فيه القيم الإنسانية، وتمسح الأخلاق، ليسيطر عالم الرذيلة والخلاعة والانحطاط، وتتساقط فيه المبادئ تحت أقدام الأطماع، ليسهل على الصهاينة تدمير كل المعتقدات، ويسود في النهاية معتقدهم.
الهجوم على المسجد الأقصى خطوة على الطريق، ستتبعها خطوات عدوانية كثيرة، والمواجهة في باحات المسجد الأقصى تتعدى حدود المكان، إنها المواجهة للفكرة الصهيونية التدميرية، الفكرة التي لن تكتفي بالسيطرة على المكان، بل ستعبر إلى روح الإنسان، تنفخ فيها بالبوق الشيطاني، بهدف السيطرة عليه، وتسخيره في تدمير ذاته، ليسهل القضاء عليه.