فلسطين أون لاين

حماس تحت الوصاية

منذ انطلاقها عام 1987 مرت حركة حماس بكثير من المنعطفات والمحطات الصعبة التي كاد بعضها أن يؤثر فيها وجودياً، ولكن رغم كل تلك المعوقات تمكنت الحركة من شق طريقها في هذا البحر العاصف المتلاطم الأمواج بثبات وقوة وإصرار.

ربما لم يكن لحركة حماس أن تشق طريقها الصعب وسط غابة متشابكة من التنظيمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية التي تحمل مآرب وأفكار شتى وبعضها قد سقبها في التجربة النضالية بعقود لولا تمسكها الثابت والراسخ بمنهجها المقاوم المبني على قاعدة صلبة من الفهم العقائدي الوسطي للإسلام كدين لغالبية الشعب الفلسطيني والأمة العربية وبطبيعة الحال الأمة الإسلامية، ولقد كان لهذا المنهج القويم الذي اعتمدته الحركة ثم لقدرة قادتها على قيادة دفة سفينتها الفضل في ثبات مسيرتها وتنقلها بين محطات تاريخية حققت فيها نجاحات نوعية حتى أصبحت الحركة الكبرى بين الحركات الفلسطينية عندما حظيت بثقة الشعب الفلسطيني وحققت نتائج مذهلة في الانتخابات التي جرت عام 2006م. 

هذا النجاح المميز الذي حققته حركة حماس على الصعيد السياسي كان مواكباً لنجاحات أخرى على عدة صعد منها العمل الدعوي والإغاثي والإعلامي وكان الصعيد الأبرز نجاحها المميز في العمل العسكري، خاصة بعد فشل قيادة منظمة التحرير في التمسك بهذا الخيار بعد خطيئة اتفاق أوسلو.

 لم تبق شعبية حركة حماس في حدود الدائرة الوطنية الفلسطينية وإنما انتقلت إلى مساحات أوسع في التأييد بين الشعوب العربية الإسلامية حتى أصبح حب حركة حماس يمثل الحب العربي والإسلامي لفلسطين، وفي سياق هذا الحب الشعبي الجارف للحركة انتقلت مشاعر الحب لكل من ساند الحركة في مواقفها من الإعلاميين والدعاة وقادة الرأي والشخصيات العامة على المستويات كافة سواء كانت الفلسطينية أو العربية أو الإسلامية، بل ولقد نبذت الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية كل من ناصب الحركة العداء أو اتخذ موقفاً مناوئاً لها من أرباب العمل السياسي والإعلامي والديني.

لم يكن التأييد الذي حظيت به حركة حماس نابعًا من عاطفة عابرة للشعوب وإنما من مواقف أثبتت فيها قدرتها على صناعة ما ظنه البعض مستحيلاً، وعلى وجه التحديد قدرتها على خوض للمعارك التي فرضت عليها سواء على الصعيد السياسي أو العسكري والنجاح فيها، ودعوني أضرب مثلين فقط من تلك التحديات الكبرى التي خاضتها الحركة وتمكنت من الثبات فيها على الأقل ولا أريد القول إنها انتصرت حتى لا أكون مبالغاً في نظر البعض.

أما المثل الأول فهو حينما فازت الحركة في الانتخابات التشريعية بتلك النسبة الكاسحة وكان شرط قبولها من المجتمع الدولي ولكي تفتح لها أبوابًا للعواصم العالمية أن تقبل بشروط الرباعية الدولية، تلك الشروط التي مثلث تنازلاً عن منهجها التي تمسكت به منذ لحظة انطلاقها والذي حقق لها بعدها الجماهيري والشعبي، وكان الموقف التاريخي للحركة برفض هذه الشروط التي وضعتها الرباعية الممثلة للقوى الكبرى "أمريكيا وروسيا والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة" أي أنها تمثل العالم أجمع، ونتيجة لذلك الرفض فرض عليها الحصار منذ ذلك الوقت لتتحمله بكل شموخ وكبرياء.

أسوق هذا الموقف لأدلل على مواقف أحزاب عربية وإسلامية سقطت في اختبارات أبسط بكثير وأهون، إذ إن بعض الأحزاب لم تصمد على مواقفها في مواجهة توجه ملكي أو رئاسي أو حزبي، ودعوني أقولها بملء الفم، لو أن ما عُرِض على حركة حماس من مغريات دولية صاحبت شروط الرباعية عُرض على كثير من الأحزاب والقوى لسال لعاب قادتها ولا أظن أنه كان سيخطر لهم مجرد خاطر الرفض أو حتى المراوغة، ولساقوا كثيرًا من المبررات والدواعي التي لن يعجزوا عن ابتداعها.

 أما التحدي الثاني الذي أود ذكره هو قرار خوض الحرب في ظل موازين قوى لا أقول تميل لصالح العدو فحسب بل في ظل حالة من انعدام الإمكانيات تقريباً مقابل أقوى الجيوش تسليحاً وتدريباً وتطوراً على وجه الأرض، لتحقق المعجزة وتستطيع حماس أو تخلق قوة ردع من العدم لتثبيت قواعد اشتباك لأول مرة في تاريخ الصراع مع العدو بعد أن قصفت عاصمته ومكمن عزته المرة تلو المرة.

 لقد حققت حماس ما عجزت عنه جيوش لم تخطَّ إلا بالهزائم ومن وراء الهزائم الذل الطويل الذي لا يزال جاثماً على صدر الأمة، ولم تفلح في إزالته كل الأصوات التي أوهمتنا كذباً أنها لا تملك لفلسطين إلا الدعاء!

هذان مثلان أسوقهما فقط لأن المقام لا يتسع لذكر المزيد ولأذكّر من ينسون رد الفضل لأهله ولمن ظن أنه صاحب وصاية على حماس لأنه فقط داعية مشهور أو إعلامي بارع أو منظر سياسي مميز أو حتى مفكر حاذق، بل لم يكن لأي من هؤلاء أن يحظى بمكانته التي حظي بها لولا تعلقه منذ زمن بأذيال الحركة التي لم تكن يوماً إلا رافعة لمن أراد لها خير.

قد نختلف في الآراء أو نتفق حول قرار الحركة بإعادة العلاقة مع سوريا وهذه مساحة اجتهاد سياسي للحركة الحق كل الحق أن في العمل ضمنها، ولكن أن يصبح الأمر في نظر البعض نوع من فرض الوصاية فمثلهم كمثل الصبي الذي يطمح أن يكون وصياً على معلمه أو المريد الذي يسعى ليكون قيماً على شيخه.