على أرض محمية وادي غزة الطبيعية، تتربع بيوت سكنية وأراضٍ مزروعة ومثمرة، اشتراها مواطنون من سماسرة وتجار أراضٍ؛ رغم أنها مصنفة كـ"محمية طبيعية" يحظر البيع والشراء فيها.
وصنفت سلطة جودة البيئة، عام 1999، وادي غزة الذي يبلغ طوله 9 كيلومترات داخل حدود قطاع غزة "محمية طبيعية"، وهو المحمية الوحيدة في القطاع ويقع وسطه، ويمتد من جبال الخليل حتى المصب في البحر المتوسط بطول 105 كيلومترات.
وتوصل معد التحقيق إلى أن تجارًا وسماسرة ومواطنين ردموا أجزاء من مجرى وحرم وادي غزة، وبيعه كأراضٍ مقابل مبالغ مالية.
وتَبيّن أن بلدية النصيرات الذي يقع الوادي ضمن نفوذها بمساحة 4 كيلومترات و275 مترًا مربعًا (المساحة الأكبر منه) مَنحت موافقةً رسمية في أبريل/ نيسان 2013 لشركة "أبو الحصين للعقارات" لتقسيم وبيع 134.5 دونمات مصنفة كـ"زراعي"؛ ضمن القسائم (11-12-6) من القطعة (664) وقسيمتي (7-10) من القطعة (665) من محمية وادي غزة، وهي أكبر مشروع إفراز في حرمِه.
وقدّمت البلدية الموافقة لشركة العقارات بتحويل القسائم من "زراعي" إلى "سكني" مقابل حصولها على مساحة عامة للطرق والمرافق بنسبة 31.6% من المساحة الإجمالية للأرض، لكن تبين أن البلدية في حينه قد باعت تلك المساحة.
ولم توافق سلطة الحكم المحلي، في عهد وكيلها المساعد الحالي سعيد عمار، على شرعنة بلدية النصيرات سابقًا بيع أراضٍ من حرم الوادي وتغيير تصنيفها من زراعي إلى سكني، إلا أنه رغم ذلك تم بيع قطع أراضٍ لنحو 200 مواطن، وتم البناء على أجزاء منها.
لجنة تحقيق
وشكلت الأمانة العامة لمجلس الوزراء بغزة لجنة تحقيق في مارس/ آذار 2022، تضم وزارات الأشغال العامة والإسكان، والزراعة، والعدل، والحكم المحلي، وسلطة المياه وجودة البيئة، بشأن منح بلدية النصيرات في ذلك الوقت الموافقة على تقسيم وفرز أراضٍ من محمية الوادي.
وأوصت اللجنة، وفق وثائق حصل عليها معد التحقيق، بتشكيل لجنة تحقيق حكومية جديدة لبلدية النصيرات في التجاوزات والمخالفات المذكورة.
وألزمت اللجنة بلدية النصيرات بتحمل التبعات الناتجة عما يترتب من استقطاعات وتعويضات في محمية الوادي، وإيقاف أي معاملات بناء في المنطقة، وملاحقة مالك المشروع (شركة العقارات) جزائيًّا بسبب مخالفته الأنظمة والقوانين. لكن لا تزال المخالفات قائمة.
وشددت اللجنة على ضرورة تعزيز الحماية للأراضي الزراعية والمحميات الطبيعية بتعديل أحكام قانون الزراعة، وقانون البيئة، بتجريم وتشديد عقوبة من يعتدي عليها بالتقسيم بغرض البناء.
صور الأقمار الصناعية
وتتبع معد التحقيق من خلال صور الأقمار الصناعية مجرى وادي غزة وحرمه على مدار 17 عامًا، لكشف التغير التاريخي الذي طرأ عليه، إذ أظهرت الصور اختلافًا واضحًا بين الماضي والحاضر.
ووضع معد التحقيق صور الأقمار الصناعية بين يدي المختصة بالنظم الجغرافية في الجامعة الإسلامية بغزة آية حسونة، لتحليلها، إذ أكدت بعد الاطلاع على صور لمنطقة وادي غزة بين عامي 2004 و2021 حدوث تغيير جغرافي كبير.
وتظهر الصور، حسب حديث حسونة لصحيفة "فلسطين"، ردم أجزاء من الوادي والتعدي على حرمه، بإنشاء شوارع ترابية جديدة تخترقه، إضافة إلى مبانٍ سكنية، وبناء محطة صرف صحي بالقرب من مصبه في البحر المتوسط.
كما تظهر صور الأقمار الصناعية، كما تؤكد حسونة، ممرًا مائيًّا متقطعًا على طول مجرى الوادي في الأشهر غير المطيرة، وذلك بسبب صب محطات معالجة مياه الصرف الصحي المياه في المجرى.
ويُصنف قانون رقم 1 لسنة 1999 بشأن المصادر الطبيعية "المحميات الطبيعية" أنها المناطق المحددة لحماية أنواع معينة من الكائنات الحية، أو أي أنظمة بيئية أخرى ذات قيمة طبيعية، أو جمالية التي يُمنع إزالتها، أو التأثير عليها، أو إهلاكها.
وتحظر المادة 44 من القانون، على أي شخص القيام بأي أعمال أو تصرفات أو أنشطة تؤدي إلى الإضرار بالمحميات الطبيعية أو المناطق الحرجية أو المنتزهات العامة أو المواقع الأثرية والتاريخية أو المساس بالمستوى الجمالي لهذه المناطق.
سلطة الأراضي
بدورها، تؤكد سلطة الأراضي أن مجرى وادي غزة تعرَّض للتعدي عليه من مواطنين خلال فترة الجفاف التي مر بها، وتعمل على ملاحقة المتعدين وفق القانون.
ويحظر القانون، وفق حديث المدير العام للمساحة في سلطة الأراضي عمر زايدة، التصرف أو البناء أو البيع والشراء في حرم الوادي.
وبشأن بيع 134.5 دونمات من الأراضي المتاخمة لوادي غزة، يقول زايدة لـ"فلسطين": إن البلدية في ذلك الوقت خالفت النظام المعتمد لدى لجنة التنظيم المركزية، حيث سمحت بتحويلها إلى "سكنية"، ونقلت شارعًا هيكليًّا عرضه 20 مترًا إلى مكان آخر "وتجاوزت المخطط المعتمد من لجنة التنظيم لمصلحة ما".
وأوقفت لجنة التنظيم المركزية، حسب زايدة، التراخيص في تلك المنطقة، والبيع والشراء، لحين حل المشكلة؛ كون المنطقة قد أصابها خراب، وأنه يجب على المتعدي إزالة التعديات.
وعلى الأرض، ذهب معد التحقيق إلى الأماكن والأراضي المعتدى عليها في حرم الوادي ومجراه، ولم يجد أي إجراءات حكومية ضد المعتدين الذين يتلقون خدمات بلدية بشكل رسمي.
ردم وبيع
من جهته، قال مدير دائرة المصادر البيئية في سلطة جودة البيئة محمد مصلح: إن بعض المواطنين ردموا أجزاء من الوادي لتسوية أراضيهم الملاصقة له، إضافة إلى أن مناطق أخرى من الوادي وخاصة حرمه تعرضت للتعدي، رغم أن الحرم مسجل كـ"محمية طبيعية".
وإلى جانب المواطنين، كان هناك تعديات من البلدية، حيث ردمت حوافَّ الوادي بنفايات، وهذه ظاهرة جلية وواضحة، وتحديدًا غرب محطة توليد الكهرباء، والحديث لمصلح.
وبين لـ"فلسطين" أن عرض حرم الوادي يبلغ 50 مترًا، وهي مساحة تم وضعها ضمن ما يعرف بالمخطط القطاعي لوادي غزة، لكن يتم التعدي عليها.
ووفقا لمصلح، منح المجلس البلدي لبلدية النصيرات في أبريل 2013 موافقة لأحد تجار الأراضي بشراء قطعة أرض كبيرة على حد الوادي، لكن وزارة الحكم المحلي رفضت منح موافقة إفراز لتشريع تلك المنطقة كونها "محمية طبيعية".
ولمواجهة التعديات، يبين مصلح أنه تقرر تشكيل لجنة خاصة لإعداد مخطط قطاعي للوادي برئاسة سلطة جودة البيئة وعضوية كل من وزارة الحكم المحلي ووزارة التخطيط وسلطة الأراضي.
وأصدرت اللجنة، حسب مصلح، نظام المخطط القطاعي للوادي، وصدَّقت عليه اللجنة المركزية للأبنية وتنظيم المدن بمحافظات القطاع.
ويشتمل النظام على منطقة حماية (أ) مجرى الوادي، حيث لا يسمح فيها بإقامة أي منشآت ضمن حدودها سواء ثابتة أو متحركة، ومنطقة حماية (ب)؛ وهي حرم الوادي ولا يسمح فيها بإقامة أي منشآت ضمن حدودها سواء ثابتة أو متحركة إلا بموافقة الجهات المختصة، وبما يتوافق مع المخطط التفصيلي المعتمد لمنطقة المشروع.
مخالفات جسيمة
الوكيل المساعد لوزارة الحكم المحلي ونائب رئيس اللجنة المركزية للأبنية وتنظيم المدن بالوزارة، سعيد عمار، اعتبر موافقة بلدية النصيرات على مشروع الفرز "مخالفة إدارية وقانونية جسيمة"، وأن المخالفة الأخطر أن تلك الأرض تم تقسيمها بعيدًا عن المخطط القطاعي للوادي، والذي تم إعداده من قبل لجنة وزارية.
وحسب عمار لـ"فلسطين"، تم الموافقة على تقسيم وفرز تلك الأراضي مقابل تخصيص قطع أراضٍ لبلدية النصيرات، إلا أن ذلك تم على الورق، إذ تبين أن تلك القطع بيعت لمواطنين.
وتجاهلت بلدية النصيرات آنذاك، كما يوضح عمار، المخطط القطاعي، والشوارع الموجودة على جانبي الوادي، ومناطق الحماية (أ) و(ب)، عبر منحها موافقة لتقسيم وفرز تلك الأرض.
ويؤكد أنه تم التعدي على حرم الوادي، وتخريب المخطط القطاعي له، وهو ما أوقف تنفيذ شوارع الخدمة للوادي ومناطق الحماية التي نص عليها المخطط القطاعي.
وإلى جانب بلدية النصيرات، يبين الوكيل المساعد لوزارة الحكم المحلي، أن بلدية الزهراء أيضًا قامت بتحويل مشاريع فرز من "زراعي" إلى "سكني".
واجه معد التحقيق المالك الأصلي لشركة "أبو الحصين"، وأكد رئيس مجلس إدارتها عبد الله أبو الحصين أن أرضهم ملك لعائلتهم، ومسجلة في سلطة الأراضي، وحصلت على موافقة للتقسيم والفرز والبيع من بلدية النصيرات التي قدمت لتلك الأراضي خدمات.
ويؤكد أبو الحصين لـ"فلسطين" أن جميع أراضي شركته تم بيعها، ولم تعد تلك أي قطعة منها، منبها إلى أن تجارًا وسماسرة ردموا أجزاء من وادي غزة وباعوها كأراضٍ لمواطنين.
بلدية النصيرات
وواجه معد التحقيق، رئيس مجلس الخدمات المشترك للتخطيط والتطوير بوادي غزة، رئيس بلدية النصيرات، إياد مغاري، الذي أكد لـ"فلسطين" أن أبرز الإشكاليات التي تواجه الوادي الزحف العمراني على حرمه.
وبشأن منح البلدية موافقة لفرز أراضٍ في حرم الوادي وبيعها، رد مغاري، الذي تسلم رئاسة البلدية في يونيو/ حزيران 2020، بقوله: "هذا كلام لا أساس له من الصحة، ولا يمكن السماح بالتعدي على الأراضي الحكومية، خاصة بعد تأسيس مجلس الخدمات المشترك للتخطيط والتطوير- وادي غزة عام 2021".
وأضاف أن بلدية النصيرات أو البلديات الأخرى المطلة على الوادي لا تمنح أي رخص بناء أو خدمات في أراضي الوادي، ويتم إخطار المعتدين وتوقيفهم ومتابعتهم على الدوام.
ولا يوجد، حسب مغاري، عرض محدد لحرم الوادي، لكن البلديات المُطلة عليه تقوم بواجبها في منع التعديات ومخالفة المعتدين.
وبشأن السماسرة والتجار الذين يشترون ويبيعون في حرم وادي غزة، رد مغاري: "نطالب هؤلاء بمراجعة دائرة الهندسة والتنظيم لمعرفة الشروط التنظيمية والالتزام بها، وإفراز الأراضي حسب الأصول المعمول بها".
وتابع أن طواقم البلدية تعمل جاهدة على متابعة الأعمال الإنشائية باستمرار، ومخالفة أي صاحب مبنى لم يحصل على ترخيص مسبق من البلدية "وبالتالي لا نمنحه رخصة بناء أو أي خدمات، ويصل الأمر في كثير من الأحياء لإصدار أمر توقيف بحقه، وتنفيذ أعمال إزالة لأي مبنى مخالف للشروط التنظيمية".
كما ذهب معد التحقيق إلى بلدية الزهراء وواجه رئيسها مروان حمد، بشأن منح بلديته أراضي ضمن مشاريع فرز وتقسيم من حرم وادي غزة، إذ أكد أن ذلك ضمن مشاريع قديمة قبل عدة سنوات، وتعمل البلدية على تسوية ملفاتها حسب الأصول.
ووفق حديث حمد لـ"فلسطين" تعمل بلدية الزهراء على منع التعديات والعشوائيات من خلال جولات تفتيش ومتابعة دورية، وعدم منح أي تراخيص إلا ضمن ملكيات خاصة بالمواطنين وتتناسب مع استخدام المنطقة.
وتقوم البلدية أيضا، حسب حمد، بإعداد المخططات التفصيلية الخاصة بالمنطقة ومتابعة اعتمادها حسب النظام، والمشاركة في اعتماد المخططات التفصيلية لحرم الوادي مع البلديات المجاورة واللجنة المركزية.
وأمام مواصلة التعديات الموثقة على مجرى وادي غزة وحرمه، تبقى "المحمية الطبيعية" الوحيدة في القطاع رهينة تجار وسماسرة الأراضي ومواطنين، دون اعتراف بلديات بالمشكلة، واعتراف أخرى بذلك والتطلع إلى تسويتها.