في الوقت الذي بدا لافتا أن الفلسطينيين بمختلف وسائلهم الإعلامية، أحيوا اتفاق أوسلو، كلّ من وجهة نظره، فإن الإسرائيليين في المقابل لم يأتوا على ذكراه السنوية إلا نادرا، وكأنهم بعد 29 عاما على توقيعه يعلنون وفاته بصورة رسمية علنية، بعد أن تم تجاوزه والقفز عنه من خلال السلوك الميداني الإسرائيلي على الأرض.
بالعودة سنوات إلى الوراء، وقبيل توقيع ذلك الاتفاق، كان واضحا للإسرائيليين كيف أن قوى المقاومة الفلسطينية اتفقت على أن الانقسام الذي حل بالخارطة السياسية، شكّل أرضية خصبة لبروز تيارات سياسية تنادي بالتعاطي مع المخطط الأمريكي الهادف لتصفية القضية الفلسطينية من خلال إجهاض انتفاضة الحجارة في حينه، وتمثل ذلك في الانزلاق الذي وصلت إليه القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير في مسيرة التسوية.
في الوقت ذاته، فقد بدا غريباً، وعلى غير المتوقع، وفق بعض القراءات الإسرائيلية، فإن انتفاضة الحجارة ساهمت في تسريع عجلة التسوية السياسية، ومنحتها زخماً كادت تفتقده، وعززت موقف دعاة التسوية خارج الوطن المحتل بسبب نجاحهم في ركوب موجتها، وعليه فإن جاءت النتيجة النهائية التي قادت هذا المسار واضحة بأبعادها الكارثية، والمشاركة في المفاوضات وفقا للشروط الإسرائيلية، حتى لو كانت مآلاتها هذه النتيجة التصفوية المتمثلة باتفاق أوسلو.
مع العلم أن الإسرائيليين وهم يرون قطار التسوية السائر بمحطات متعرجة، أدركوا أكثر من سواهم أن الأوضاع الإقليمية مهيأة جداً لتوقيع ذلك الاتفاق، ولا سيما في ظل الانكسار العربي الناجم عن حرب الخليج الأولى 1991، واستثمار هذه اللحظة التاريخية القاسية لتمرير الاتفاق، الذي شكل نذيراً للإجهاز على مشروع المقاومة برمته، كشرط لإقامة سلطة فلسطينية تضمن التعايش السلمي مع المحتل، وتكون مهمتها الأولى إيقاف الانتفاضة، مقابل حكم ذاتي محدود على بقعة محدودة جداً من أرض فلسطين.
لمزيد من الإنصاف يمكن الحديث أن توقيع اتفاق أوسلو، ما كان له أن يحدث بهذه السرعة لولا ما أجمعت عليه دوائر صنع القرار الإسرائيلي والفلسطيني "الرسمي"، فضلا عن العربي والدولي، لولا الخوف من تعاظم قوة المقاومة الفلسطينية التي كانت آنذاك آخذة في التصاعد، وبدت مرشحة على أيدي القوى الإسلامية الصاعدة للدخول إلى طور جديد من المواجهة.
لكن مصالح الإسرائيليين وقيادة المنظمة آنذاك، وعدد من الدول العربية توافقت مع نتائج اتفاق أوسلو، فاتفقت جميعها على حلّ ناقص لم يوافق عليه غالبية الفلسطينيين، وكأن التاريخ أعاد نفسه في أوسلو بصورة أكثر قبحاً وقسوة عن صورته الأولى في ثورة 1936 التي تم إجهاضها بتواطؤ إقليمي دولي لصالح الحركة الصهيونية!