تشهد الضفة هذه الأيام ارتفاعًا ملحوظًا في أنشطة المقاومة، خاصة عمليات إطلاق النار، فالمنسوب الثوري في الصدور وعلى أرض الواقع يرتفع وينخفض، فإذا انخفض انخفضت كلفة الاحتلال وإذا ارتفع ارتفعت كلفة الاحتلال، بناء على هذه القاعدة فإنّ المطلوب هو رفع فاتورة الاحتلال البشرية والمادّية التي من شأنها أن تجعل من حساباته صعبة والتفكير جديّا بالخلاص من هذا الاحتلال المكلف.
هذه هي الوصفة الوحيدة للخلاص من الاحتلال وقد جرّبت في لبنان، حيث نفذ الجيش الإسرائيلي عملية هرب في جنح الظلام في أيار عام 2000 سمّاها عملية الغسق، وقد كانت مذلّة ومهينة، وقد كتب التاريخ نهاية مشرقة لمقاومة المحتل وكتب على صفحات سوداء قاتمة نهايته المرّة في لبنان، وتكرّر هذا السيناريو الجميل أيضا في قطاع غزّة، أصبحت أيامه سوداء هناك وانتشرت عمليات إطلاق النار والتي كانت بداياتها مع عمليات عماد عقل ثم تمدّدت واتسعت ولم تعد قوة الاحتلال وجبروته قادرة على وقف حالة الخسارة المتدحرجة، وأصبح إبقاء الاحتلال دون خسارة أو بخسارة محتملة أمرا مستحيلا فكان الخيار الأفضل أمام شارون هو الانسحاب، رغم أنه من أكثر زعاماتهم دموية وإجراما وتطرفا.
ومن الواضح أيضا أنّ الضفة هذه الأيام تسير بذات الاتجاه، وقد كانت من قبل كذلك لولا تغيّر المعادلة والتحوّل من الثنائي النقيض، احتلال وشعب محتلّ إلى الثلاثي المأساوي بصناعة طرف ثالث: احتلال وشعب محتل وسلطة فلسطينية، هذا الثلاثي أدخل الضفة إلى حالة عجيبة غريبة أراحت الاحتلال وخفّضت من كلفته بل وجعلته احتلالا مريحا ومرتاحا.
ولأن سنة الحياة لا تجاري الظالم ولأن الظالم لا يعرف كيف يهتبل الفرصة أو أنّ أطماعه تعميه عن رؤية الواقع كما يجب فإن الأمر يعود إلى وضعه الطبيعي حيث صراع النقيض للنقيض، ولأن الأرض المقدّسة لا يعمّر عليها ظالم، وعليه تتسارع عقارب الزمن لتضع الاحتلال في مكانه الطبيعي هدفا لكل حرّ رافض لاستمرار ظلمه وطغيانه ورافض لشعبه أن تسلب منه حريته وكرامته وسيادته على أرضه.
هناك عوامل كثيرة تؤكد هذا المسار، منها: انسداد الأفق أمام السلطة الفلسطينية، حيث يريد الاحتلال لها أن تقوم بدورها الوظيفي دون أن تحقّق تطلعات الشعب فيها من تحقيق سلطة وطنية بالفعل ذات سيادة وكرامة وقدرة ذاتية على الاستقلال عن المحتلّ والتحرّر وتقرير المصير، فالاحتلال يريدها ضعيفة هزيلة تعتمد عليه في كلّ شيء، يعني روحها بيده إذا أوقف المقاصّة الضريبية مثلا اختلّ توازنها ولم تعد قادرة على دفع رواتب موظفيها، فضلا عن كلّ مفاصل حياتها الرئيسية بيده، المعابر والاستيراد والتصدير والمياه والسوق المفتوحة لبضائعه... الخ.
لذلك وجدنا في نموذج جنين وشمال الضفة وقدرة المقاومين على الخروج عن طوع السلطة والاشتباك مع المحتلّ، صياغة جديدة لمعادلة عودة الصراع بين النقيضين الأساسين وتنحية السلطة جانبا ما استطاعت لذلك سبيلا، إنّ استمرار الضفة على هذا النسق مع تغذية كلّ الروافد الثقافية والإعلامية التي ترفع من المنسوب الثوري في الوعي الجمعي لأهل الضفة من شأنه أن يعيد المعادلة إلى وضعها الطبيعي الذي يجعل الاحتلال مكلفا، ومن ثم فإن استمراره على هذه الأرض مستحيلا.