أما وقد خرج الدخان الأبيض بترشيح وزير حرب الاحتلال بيني غانتس للقائد الجديد للجيش خلفا لأفيف كوخافي الذي ينهي مهامه في يناير المقبل بعد أربع سنوات صعبة، فإن هآرتسي هاليفي تنتظره أجندة عسكرية وأمنية ليست أقل صعوبة، إن لم تكن لأكثر، في السنوات الأربع المقبلة، ولا سيما في الجبهات المشتعلة بين إيران وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، وما بينها من تحديات وتهديدات تخص تركيبة الجيش والعلاقات الشائكة بين المستويين السياسي والعسكري.
مناسبة هذا الحديث أن ترشيح غانتس لـ"هاليفي" شابه العديد من الاحتكاكات السياسية والحزبية داخل دولة الاحتلال، أولها اعتراض المعارضة على هذه الخطوة، بزعم أن حكومة انتقالية عابرة ليس من صلاحياتها تعيين المنصب الأكثر خطورة في الجيش، وثانيها أن ترشيح هاليفي جاء بعكس رغبة زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو الذي كان يفضل تعيين آيال زامير منافس هاليفي لهذا المنصب، وهذان الشاهدان يكشفان بما لا يدع مجالًا للشك كيف أن السياسة والعسكرة في دولة الاحتلال متداخلتان إلى حدّ الانغماس.
مع العلم أن مسألة العلاقات بين المجتمع والجيش من المسائل الشائكة في دولة الاحتلال، والمؤسسة العسكرية هي ذراع للسلطة التنفيذية، تخضع لقرارات المستوى السياسي، فالجيش وأجهزة الأمن تنفذ سياسة يرسمها ويقرها الساسة، لكن المشكلة تنبع من المكانة الرفيعة التي تحتلها المؤسسة العسكرية، وهي نتاج النظرية الأمنية القائلة بأن "الدولة تواجه تهديداً وجودياً".
ورغم أن العقود الأولى من دولة الاحتلال شهدت فصلاً بين السياسة والجيش، من خلال منع تأثير الأحزاب على المؤسسة العسكرية، لكن السنوات الأخيرة شهدت انقلابا في هذه المعادلة، من خلال تداخل المستويين، وتجيير الجيش لخدمة الساسة، في ضوء ما يعانونه من فقدان الكاريزما السياسية، وحاجتهم للبزة العسكرية كي يستقوون بها أمام خصومهم الحزبيين.
في المقابل، فقد تجلى دور الجنرالات في ترسيم حدود السياسة الإسرائيلية، ولا سيما أن المنظومتين العسكرية والسياسية كانتا على الدوام منصهرتين ببعضهما بعضًا، وعليه فإن الذي يقر الإستراتيجيات وسُلّم الأولويات القومي الإسرائيلي، باعتبارهما موضوعاً يقف في صلب الإجماع الوطني، ليس هيئات تتولاها تعيينات سياسية، بل أشخاص في البزات العسكرية، ومن ثم غدا الجيش يمثل "الحكومة الدائمة"، وبات له دور مركزي في السياسة بما يضاهي الحكومات الإسرائيلية مجتمعة، باستثناء الفترات التي امتلك فيها رئيس الحكومة قوة الشخصية والنفوذ.
ولعل ما يبرز علاقة السياسي بالعسكري في دولة الاحتلال مقدمة كتاب "الحلم وتحقيقه... قيادة وعمل في الصهيونية"، وجاء إهداؤه بخط يد رئيس هيئة أركان الجيش آنذاك "رفائيل إيتان"، وورد فيه: "إلى قائد جيش الدفاع الإسرائيلي.. الدولة.. هي أنت، أنت تحدد مستواها، وطابعها في الحاضر ولأجيال قادمة".