وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي*** وبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا
أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُمُ*** دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا
فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ***وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدا
المقنع الكندي
ربما من الضروري دومًا أن يتذكر العدو والصديق والقريب والبعيد، وأن نعلّم الأجيال أن الفلسطيني لطالما دفع ثمن خيارات وانحيازات وأخطاء وتقلبات وتواطؤ وضعف وخذلان النظام العربي الرسمي، منذ ثوراته المشهودة أيام الانتداب البريطاني وصولًا إلى أيام الاحتلال الصهيوني، وثوراته وانتفاضاته المتواصلة على هذا الاحتلال.
ولابد من التذكير أنه لولا صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني لتمدد الكيان الصهيوني، الذي يبني الجدران ليحمي كيانه منذ سنين، بسبب صلابة وبأس الفلسطيني، ولكان الجندي الصهيوني يوقف ويفتش المواطن العربي في عواصم عربية مجاورة أو غير مجاورة، لكن الفلسطيني بمقاومته وصموده ووعيه الفطري المسنود بالإيمان بالله جعل المشروع الصهيوني حريصًا على البقاء في فلسطين بدل التمدد خارجها مثلما كان يحلم المؤسسون له.
ولابد من التذكير بأن أي قطرة دم عربية أراقتها يد الصهاينة إنما كانت تذود عن كرامة أهلها وأرضها، وليس فقط عن كرامة الشعب الفلسطيني الذي أثبت مرارًا وتكرارًا أنه يصنع المعجزات في نضاله وتضحياته، ولابد من التذكير أن جزءًا كبيرًا من خلافات وانقسامات الشعب الفلسطيني في مختلف مراحل نضاله صناعة عربية بامتياز، على الأقل باستمراريتها وقوتها.
لا أريد أن أتبنى مفردات الطهارة والمثالية المطلقة للفلسطيني، ولكن أن يتهم الفلسطينيون بالعمالة للصهاينة، وبأنهم باعوا أرضهم لليهود تلك طامة كبرى، وجريمة لا تغتفر، نعم، كأي شعب وقع تحت الاحتلال يمكن للعدو أن يجند عملاء منه، وهل سلمت أي دولة عربية وقعت تحت الاستعمار الأوروبي من هذه الظاهرة؟!، هل يجوز أن نعممها على أي شعب عربي بأكمله؟!، بل هل نـتهم الفرنسيين بالعمالة للنازيين بسبب "حكومة فيشي"؟، وإذا أردنا الحديث عن بيع الأراضي فإننا ننكأ جرحًا، لأن إقطاعيين من دول عربية هم من باعوا أراضي شاسعة امتلكوها في فلسطين إبان الحكم العثماني، باعوها لليهود بلا وازع من دين أو وطنية أو خجل أيام الانتداب البريطاني، وأخيرًا باعت أراضي وعقارات في القدس البطريركية التي يقوم عليها أساقفة من اليونان، وليس مسيحيي فلسطين.
لقد طفح الكيل من أسلوب المنّ المقرف ممن يفترض أنهم أشقاء وإخوة يتربص بهم الصهاينة، فكل يوم يخرج علينا أحد هؤلاء عبر فضائية ما، ليذكرنا بالدم الذي بذل من أجلنا، متـناسيًا أو جاهلًا أو لقن غير هذا أن أراضي عربية قد احتلها الجيش الصهيوني، وأقيمت عليها مستوطنات، وعلى هذا الدم أريق دفاعًا عن أرضك أيضًا، أي قرف هذا؟!، هل على دول الثوريين الذين قاتلوا في شتى أصقاع الأرض أن تعيّر وتمنّ على الشعوب التي قاتلوا فيها؟، هل على الأرجنتيني أن يتعالى بسبب جيفارا على الكوبي مثلًا؟!، وهل على العربي أن يتعالى على الأفغاني أو البوسني؟!
والحقيقة المرة أننا لا نعيش في دول تنعم بحريات إعلامية مطلقة، كي يقال إن من يقذفون هذه القاذورات باستمرار يمثلون أنفسهم، فليخرج بيان رسمي يقول: "إنا برآء من هذا"، أما ادعاء البراءة الرسمية بالصمت والسماح لهؤلاء بشتم الفلسطيني صباح مساء، حتى والفلسطيني يقاتل بلحمه الحيّ من أجل المسجد الأقصى الذي هو من صلب عقيدة كل المسلمين؛ فهذا أمر جاوز كل حد، وتخطّى بوقاحته كل عقل ومنطق، أم يرون أن "حيطنا واطي" فيشتمونا ويتطاول سفهاؤهم علينا؟!
إنني في نظرية المؤامرة من الزاهدين، ولكن تتابع وتواصل الهجوم الإعلامي على الفلسطيني في السنين القليلة الماضية يدفعانني إلى طرح سؤال وجيه: هل القصد هو الوصول إلى حالة اعتياد تدريجية لشيطنة واتهام الفلسطيني بسائر الموبقات والقبائح، بالتوازي مع سحب حازم للخطاب المناوئ للمشروع الصهيوني، ليكون متقبلًا تطبيع وبناء علاقات تصل إلى التحالف والصداقة مع الكيان العبري، دون أن يعيد ولو شيئًا بسيطًا من حقوق الشعب الفلسطيني، ووقتها إذا اعترض الفلسطيني _وهذا من حقه_ فسيكون أمام حالة قد تكونت في الوعي العام أنه لا حق له؟، هذا ما بتّ لا أستبعده.
والفلسطيني إذا عمل في أي مجال ببلاد العرب التي تعلمنا ونحن صغار كما تعلم سائر أطفال العرب بأنها "أوطاني"، وأن الحدود مصطنعة من الغزاة الإنجليز والفرنسيين والطليان وغيرهم؛ فهو يبذل جهدًا وعرقًا وسنين العمر والشباب في غربته مقابل كل قرش يحصل عليه، ومع ذلك كلما حصل خلاف بينه وبين سائق سيارة أجرة أو بائع بمتجر، في أمر لا شأن له بالسياسة ولا التاريخ؛ سمع الكلام المؤذي: "بعتم أرضكم"، "لمَ تقيم هنا بدل أن تذهب وتحرر أرضك؟!"، من أين جاءت هذه الثقافة السيئة، في دول بوليسية تعد على الناس أنفاسهم، وتحدد لهم ما هو مسموح بقوله، وما يحظر عليهم مجرد التفكير فيه؟!، إن حديث السفيه في الشارع ليس بعيدًا عما يدور بذهن صناع القرار في القصور والمكاتب، وإذا كان هذا يدخل في إطار الظنّ الآثم؛ فلتكن مناهج التعليم وما يبث في الإعلام عن أرض اسمها فلسطين، شعبها احتلت أرضه وارتكبت بحقه المجازر، وفي هذه الأرض مقدسات يجب استردادها، لا ينبغي أن يكون هناك من عامة الناس من هو حامل لهذه الأفكار السوداء المسمومة المفتراة على الفلسطيني.
وفي ظل هذه الهجمة إن على الفلسطيني رسميًّا وشعبيًّا بكل قواه وفصائله وفعالياته المختلفة ووسائل إعلامه أن يقدم الشكر، ويرفع عظيم الامتنان للعرب على مواقفهم، وإلا فهو جاحد ناكر للجميل، متنكر للتضحيات الجسام التي عليه أن يحفظها للأقطار العربية، التي في ظلها فقد أرضه وقتل أولاده، وثبطت ثوراته.
وهذا الفلسطيني الذي يقيم في بلد بل ربما ولد فيه منذ عقود يعيش هاجس الطرد، أما شقيقه الفلسطيني الآخر في بلد أجنبي أهله ليسوا عربًا وليسوا مسلمين يمنحونه جنسيتهم بعد بضع سنين، وقد يترشح لمناصب سياسية أو إدارية ويفوز بكل أريحية، وهو لا يشكرهم ولا يمتن لهم، بل قد يشتم حكوماتهم ورؤسائهم، إذا لم تعجبه مواقفهم، دون أن تتعرض له بأي مساءلة فروع الأمن، أو يتلقى قرارًا بالطرد والترحيل، والله ما كنت أحب أن أدخل في مقارنة كهذه، ولكن المتطاولين الذين لا أرى سياسيًّا ولا عالم دين ولا إعلاميًّا وازنًا في أقطارهم إلا أقل القليل يردعهم ويصدّهم عما دأبوا منذ مدة على رمي الفلسطيني به بلا خجل أو وجل، أو مراعاة لضوابط الإسلام ولا حتى أخلاق عرب الجاهلية.
يبدو أن الأمور تجري باتجاه تحويل العداء إلى الفلسطيني، فليس اليهودي الصهيوني القادم من بولندا وأمريكا أو أثيوبيا معتديًا غاشمًا، بل الفلسطيني هو السبب، والفلسطيني متهم وهو يستشهد ويعتقل بالخيانة وبيع الأرض، هذه الثقافة التي تدفع بهذا الاتجاه يصعب عليّ كثيرًا أن أعدها مصادفة، في ظل الحديث عن حل إقليمي برعاية ترمب، فليس مصادفة أن يخرج مشايخ بما شذّ من فكر ورأي في بلد، بالتوازي مع متحدثين عبر الفضائيات ومغردين في (تويتر) ببلد آخر، ولسان حالهم جميعًا: عدونا هو الفلسطيني لا المحتل الإسرائيلي، بل إن هذا الخطاب المشبع بالكراهية يلوم الضحية أي الفلسطيني، ويختلق الأعذار للجلاد الصهيوني، ويذكرنا بمثيله عند شرائح اللوبي اليهودي في بلاد الغرب.
ولكن ليعلم العدو والصديق (إذا بقي من يمكن أن يكون صديقا) أن قضية فلسطين تطهّر وتعلي شأن من ينحاز إلى الحق الأبلج فيها، وهو مكسب له، ولعلكم تعرفون الأمثلة عن دول وكيانات كيف ازدادت مكانتها لمواقفها من القضية الفلسطينية، حتى لو كانت مواقف كلامية وإعلامية، وأما من سيخذل الفلسطيني، ويتآمر عليه فليعلم أنه كناطح صخرة يومًا ليوهنها، لا يضرّهم من خذلهم، كما في الأثر، تذكروها جيدًا، ولقد رأى العالم كله جموع الفلسطينيين _خاصة أهالي القدس_ يدخلون المسجد الأقصى مهللين مكبرين، ما ضرّهم تخاذل المتخاذلين، ولا تآمر المتآمرين، ولاشك أنه لم يضرهم _ولن يضرهم_ شتم السفهاء ممن يسمون إعلاميين.
وأيضًا فليعلم القاصي والداني أن الفلسطيني كان دومًا قادرًا على قلب الطاولة، وتغيير مسار كل التوقعات، وقلب الحسابات والمعادلات، وليرجع كل من يريد التحقق إلى كل مرحلة كان يتوهم المتوهمون فيها أن الشعب الفلسطيني صار فريسة ناجزة، وإذ هو يركل كل تلك التصورات.
وإذا كان الشاتمون المتطاولون _وهم أقزم من الأقزام_ على الشعب الفلسطيني يمثلون أنفسهم فقط؛ فلنسمع هذا صراحة من الجهات المعنية، ولتخرسهم الحكومات والدول وتضع حدًّا لبذاءتهم التي لم تعد تطاق ولا تحتملها النفوس، مهما تزينت بالحلم، أو تسلحت بوقار التعالي عن السفاهة، ولا نملك إلا السخرية، إذا قيل لنا إن شتمهم لنا يندرج تحت إطار حرية الرأي والتعبير.
لم يكن الفلسطيني يومًا عدوًّا للعربي الذي هو شقيقه، كما يفترض أن يكون، ولم يكن عالة عليه كما يتهم، وما باع الفلسطيني ولا خان ولا تنازل عن حقه، وكل تراجع أو خلل كان العرب سببًا مركزيًّا من أسبابه في الماضي والحاضر، والشعب الفلسطيني صامد ويقاوم المشروع الصهيوني منذ 120 سنة، ولو أن ما بذل لتطويعه وشطبه خلال هذه المدة من مال وسلاح وخطط ماكرة، على شعب لآخر؛ لتهوّد وصارت العبرية لغته، فليخرس كل متطاول، فما عاد للصبر مكان.