فلسطين أون لاين

​"مقدسية" تتأمل مدينتها في كل يوم وكأنها تراها لأول مرة

...
القدس المحتلة / غزة - نجلاء السكافي

لعلّك تساءلت يومًا هل تبدو رائحة الكعك المقدسي كأي كعك آخر فلسطيني؟ هل هي ذاتها إذا ما خرجت من نوافذ البيوت المقدسية القديمة لتعبق أجواء المدينة وفضاءاتها في ليلةِ عيد؟ المقدسية رائدة سعيد (43 عامًا)، تأخذ "فلسطين" عبر الهاتف إلى جولةٍ مقدسية بامتياز، نتعرف خلالها على أسرار من حياتها في ظلال زهرة المدائن، كيف تشرّبت العادات المقدسية وكبرت في أزقة سوق الخضرة القديم؟ وبضع مشاهد ما زالت عالقة في ذهنها من طفولة تعمّها أجواء البازار الذي أصبح أثرًا بعد عين الآن.

"أكثر ما يميزنا كمقدسيين تعلّقنا بالمسجد الأقصى لأننا تربينا في حاراته وأزقته، فأصبح جزءًا منّا ونحن جزء منه، كلانا ينتمي للآخر ضمن ارتباط وثيق، والبلدة القديمة كلها أصبحت ملامحها منّا وملامحنا منها كم نشبه هذه البلدة؛ لأننا من ترابها، فأنا من تراب هذه الأرض وتعود جذوري وأصول جد جدي إلى القدس".. تقولها رائدة بمنتهى الحب.

و"رائدة سعيد" هي ربة بيت وأم لـ"6" من الأبناء من سكان البلدة القديمة، نشأت في حاراتها حيث كان يعمل والدها بائع خضرةٍ فيها، "كل حياتنا ومدارسنا و"طلعاتنا" وأيامنا وذكرياتنا في هذه البلدة، رائحة القدس ملتصقة في أجسادنا فأنا دائمًا ما أشعر أن هناك شبهًا بيننا كمقدسيين وبين المدينة؛ أشجارها، بيوتها، حجارتها، بناؤها، معالمها مرسومة على جدران قلوبنا، وأجمل ما في القدس أنها قديمة".

تعود "رائدة" بالذاكرة لأيام الصِبا التي لا تغادر مُذكرتها مطلقًا وهي تتذكر البازار؛ وهو سوق شعبي قديم كان يُقام في البلدة القديمة ويقع بالقرب من حارة النصارى؛ ويحضره الباعة من مختلف أنحاء فلسطين لكن الاحتلال حلّه منذ زمن؛ تبتسم وهي تصف المشهد: "ما زال النفس المقدسي القديم موجودًا بيننا بقعدة الجارات للف ورق العنب معًا، تعاونهم، جلساتهم للسمر إذا ما خفت ضوء القمر، الزيارات بالأعياد للقريب والغريب والجار والحبيب والبعيد".

وتتذكر الماضي بكثير من الدفء: "المذاق الحُلو القديم الذي أستشعره وأنا أتذكر أبي وهو يبيع خضاره في سوق البلدة القديم؛ وكيف كنت في طفولتي ألعب حوله ثم أصبحت في صباي أقف إلى جانبه وأساعده، وشِباك الصبر الذي كنّا نلعب حوله دائمًا ونلتقطه، لكن اليوم إذا ما مررت من هناك، أظل أقول طوال المسير "كان زمان في هون" لقد أغلقت الكثير من المحال بفعل الضرائب المرتفعة التي يفرضها الاحتلال، أشعر أن هناك أشياء جميلة كانت موجودة لكن فقدناها".

وترى أن الشباب المقدسيين يختلفون عن سائر الشباب؛ فليس بوسعك أن تسألهم عن مستقبلٍ أو فرص عمل أو حياة أفضل لأن قلبهم وروحهم ومستقبلهم وزنبقة أحلامهم كلها "القدس" كما أبناء رائدة تمامًا؛ موضحةً: "لا يمكن أن يتخلى أبنائي بالمطلق عن إقامتهم في القدس، إنهم متعلّقون فيها لا إراديًا، أشعر أن القدس في دمهم وهذا الانتماء للمدينة يولد في الشخص دون تدخل مباشر من الأبوين"، تتابع ضاحكة: "إنهم لا يكفون عن التقاط الصور في رحابها كأنهم سواح".

هل يؤثر وجود الاحتلال على تلاحم أبناء المدينة؟ "بالتأكيد ممارسات الاحتلال العنيفة الفظة من تفتيش البيوت وقتل الصِبية تحت ذرائع واهية وتوقيفنا لساعات وساعات على الحواجز، وحجم الكره الكبير الذي يكنّه المستوطنون لنا، كلها أمور تقوي ترابطنا ببعضنا أكثر فنشعر أنها جوهرة ستضيع من يدنا؛ لذلك نتمسك فيها بقوة".

ولم يفقد سكان مدينة الصلاة شعورهم بأن مجرد وجودهم فيها هو جوهرة بحدّ ذاته، فهم لا يستطيعون العيش خارج أسوارها، ودائمًا هناك شعور غريب بالجاذبية لتلك المدينة، تقول: "كل الأديان تشدّهم إلى القدس فمنذ فترة كنت أصلي في الأقصى وكان هناك سائحة فرنسية تسألنا لماذا تحضرون الأطفال للمسجد فهو مكان العبادة، جلست أشرح لها مدى تعلّقنا بالمدينة كبارًا وصغارًا وطال الحديث بيننا، فأخبرتني أنها هي أيضًا سافرت للكثير من المدن لكن لم تدرِ ما الذي أصابها عندما دخلت الأقصى؛ وما الشعور الغريب الذي انتابها بالألفة الجميلة، كأن لغزًا ربانيًا فيها".

وأكثر ما يُغري رائدة هو التجول في أزقة المدينة لا سيما البلدة القديمة، فتهفو روحها نحو الإكسسوارات والتحف الفنية خاصة القيشاني والفسيفساء اللذين تشتهر بهما القدس، ناهيك عن التطريز الفلاحي باللونين الأحمر والأخضر الباهرين وألوانِ قزح الفرِحة.

تقول: "عندما أتجول في المحال التجارية أحيانًا يتملكني شعور أن أتأمل المدينة وحسب، ما يضفي عليّ راحة نفسية كأنني في حالة صفاء تام، وكأن هذه المدينة تخصني وحدي".

وتردف: "دائمًا ما أكتشف شيئًا جديدًا فيها، أحيانًا أكتشف نافذة "شباك" لم أكن قد رأيته من قبل، وهو ليس جديدًا بالطبع، فكل أركان البلدة القديمة وُجدت منذ زمن ولكن عندما أتأمل جزيئاتها تظهر لي أشياء كنت غافلة عنها من قبل؛ وأراها للمرة الأولى، أبوابها، زقاقها، نوافذها، أزهارها، كل شيء فيها له رائحة لا أشبع منها، ينتابني شعور كأنني في جلسة تأمل واستمتاع مع المدينة ودائمًا ما نبقى في اشتياق إليها حتى ونحن داخلها".