منذ المواجهة الأخيرة في قطاع غزة الاحتلال يمارس عدة أشكال من التصعيد في الضفة الغربية، ويكثف من اقتحامه المدن الفلسطينية، ويصاحب عادة هذه الاقتحامات عمليات قتل واعتقال وتدمير لبعض البيوت، الاحتلال حينما يمارس هذه الهجمة المكثفة يدرك جيدًا أن وجود الاحتلال في الضفة الغربية أصبح على المحك، خاصة مع تنامي وتعاظم روح المقاومة وانتشار شرارتها بين المدن الفلسطينية بسرعة لا تقل عن سرعة سريان روح التحدي بين أبناء الشعب الفلسطيني، وعلى وجه التحديد جيل الشباب الذي ولد بعد عملية "السور الواقي".
يدرك الاحتلال كذلك أن روح المقاومة التي تسري في الضفة الغربية هي نتاج نجاح تجربة المقاومة في غزة، التي ألهمت هذا الجيل الصاعد الذي نشأ تحت سطوة الاحتلال وممارساته القمعية طوال عشرين عامًا، ما أحدث جرحًا غائرًا في الكرامة الوطنية الجمعية لدى هذا الجيل، لم تفلح كل محاولات الاحتلال التي اعتمدت على برامج التعايش الاقتصادي في علاجه.
الجيل الصاعد في الضفة الغربية فرضت عليه الوقائع المعيشة أن يقارن بين مشهدين، وقد أفضت هذه المقارنة على ما يبدو إلى انحياز جيل الشباب إلى أحدهما.
أما المشهد الأول فهو مشهد الخضوع الكامل والتام للاحتلال والانصياع لرغباته، واستجداء بعضٍ من الامتيازات التي يوافق الاحتلال على منحها الشعب الفلسطيني مقابل المزيد من الخضوع المذل، وما واكب ذلك من التساوق الممنهج للأجهزة الرسمية الفلسطينية مع عمل قوات الاحتلال بالتنسيق الأمني، وقد حُمّل الجيل الفلسطيني الصاعد نتيجة هذه السياسة من تراجع واضح للقضية الفلسطينية على المستوى الدولي وزيادة عمليات التطبيع من بعض الأنظمة العربية التي جرأها على التطبيع السياسات الرسمية الفلسطينية الخاضعة للرغبات الصهيونية هذا على الصعيد الخارجي، أما على الصعيد الداخلي فأدت تلك السياسة إلى مزيد من قضم الأرض الفلسطينية لمصلحة المستوطنات، وتكثيف عمليات الاقتحام للمدن الفلسطينية، واعتقال المواطنين الفلسطينيين بإذلال على الحواجز الصهيونية، وزيادة عربدة المستوطنين، وتهويد مدينة القدس، واستباحة المستوطنين المسجد الأقصى.
مقابل هذا المشهد المظلم كان هناك مشهد آخر مضيء يتمثل في تحدي المقاومة لصلف الاحتلال، وخوض خمس مواجهات أثبتت بما لا يدع مجال للشك أن المقاومة أفلحت في تثبيت قواعد اشتباك قائمة على نظرية تآكل قوة الردع لدى الاحتلال، وما صاحب ذلك من قصف "عاصمة" الاحتلال أول في تاريخ الصراع، وإجباره على العيش بظروف لا تقل سوءًا عن الظروف التي يتعمد فرضها على شعبنا، وكانت المفارقة الواضحة في التأثير الوجداني العميق لدى الجيل الصاعد مشاهدة صواريخ فلسطينية تشق سماء الوطن، لتسقط على "مدن" الاحتلال لتحيلها إلى مدن أشباح، ويشعر الفلسطيني أول مرة أن هناك قوة فلسطينية يمكن لها أن تردع الاحتلال، ويمكن لها أن تدافع عن الشعب الفلسطيني.
الجيل الفلسطيني الصاعد قارن بين المشهدين، وانحاز للمشهد الذي وجد فيه عزته وكرامته، ولفظ المشهد الآخر الذي وجد فيه ذله ومهانته.
وفي حالة نشوة وطنية عارمة غير آبهة بحسابات السياسة الرسمية الفلسطينية –فحسابات السرايا غير حسابات القرايا- انطلقت مجموعات الجيل الفلسطيني الصاعد تشكل حالات مسلحة في مدن الضفة الغربية، مستلهمة تجربة المقاومة في غزة.
الاحتلال خلال الأسابيع الأخيرة يحاول أن يحبط هذا الاتجاه الشعبي بمزيد من القمع والإرهاب وتكثيف التنسيق الأمني، ولكن دون جدوى، بل إن سياسات الاحتلال القمعية تحولت إلى وقود لروح التحدي لدى جيل الشباب الفلسطيني، وهذا ما تبشر به الأحداث المتسارعة في الضفة.
عشرون عامًا مرت منذ عملية "السور الواقي" في 2002 حتى اليوم لم تفلح خلالها سياسات التدجين في خلق جيل فلسطيني يتعايش مع وجود الاحتلال، وما يزيد على سبعين عامًا مرت من قمع الاحتلال لم تكسر إرادة الصمود والتحدي لدى الشعب الفلسطيني، هذه الحقيقة تؤكد لكل ذي لب أن المقاومة -وإن خبت فترة- لا تنطفئ، وما دامت جذوة المقاومة متقدة لا مستقبل للاحتلال في فلسطين.