فلسطين أون لاين

تقرير حي "المصرارة".. عمارة ومعارك تؤرّخ لصمود القدس الأسطوري

...
البلدة القديمة في القدس المحتلة - أرشيف
القدس المحتلة- غزة/ فاطمة الزهراء العويني:

بيوت تحمل الطابع العربي العثماني بقيت شامخة رغم كل ما مرّ على القدس المحتلة من نكبات وويلات، ليبقى حي "المصرارة" المقدسي شاهدًا على عروبة القدس وإسلاميتها، فرغم اغتصاب المستوطنين عددًا من بيوته لم يستطيعوا انتزاع هوية الحي.

الحي من أول الأحياء التي بُنيت خارج أسوار البلدة القديمة للقدس المحتلة عندما سمحت الدولة العثمانية بذلك في عام 1830م، "فتحمل مبانيه طرازًا معماريًّا عثمانيًّا يتميز بالساحات الواسعة للبيوت، كما غيره من الأحياء التي بُنيت خارج القدس القديمة كـالقطمون، والشيخ جراح"، كما يوضح الأكاديمي المختص بشؤون القدس د. جمال عمرو.

ويقع حي المصرارة أمام باب العامود أهم أبواب القدس القديمة، من الناحية الشمالية، وصمد فيه المقاومون الفلسطينيون خلال النكبة الفلسطينية، والنكسة العربية صمودًا أسطوريًّا؛ فاستطاعوا الحفاظ على الشطر الشرقي من القدس مدة 19 عامًا خضع خلالها للحكم الأردني.

ويقول عمرو: "ولأنّ الحي يقع خارج البلدة القديمة لم يخضع لقانون فتح وإغلاق البوابات، إذ كانت تُغلق بوابات البلدة بعد صلاة العشاء، ويُعاد فتحها قبيل صلاة الفجر، لتأمين السكان من الغزو واللصوص".

ويصف أستاذ هندسة العمارة في جامعة بير زيت بيوت حي المصرارة بأنها جميلة ومرتبة، فهي من النوع الثري بالزخارف والمحتويات العثمانية، مبينًا أنّ الحي بات يقع على ما يُسمى "خط وقف إطلاق النار" بعد احتلال مدينة القدس كاملة، ومثل ما يشبه سياجًا حدوديًّا بين الشطرين الشرقي والغربي للقدس، وضم الاحتلال جزءًا منه إلى الشطر الغربي، فاستوطنت عائلات من المستوطنين البيوت الفلسطينية في تلك المنطقة.

رمزيات ودلالات

ورغم استيطان تلك البيوت لم يستطيعوا تغيير النمط العربي والإسلامي لعمارة المصرارة، "فنجد عبارات مثل: الملك لله، ورموز كالهلال والتواريخ الإسلامية وغيرها، ما يدل على إسلامية وفلسطينية خالصة".

ويشير إلى أنّ الاحتلال لا يتوقف عن إيجاد ذرائع لتهجير سكان المصرارة قسرًا، فرمزية الحي تجعل لعاب الاحتلال يسيل للاستيلاء عليه؛ فهو بوابة عبور وخروج المستوطنين من البلدة القديمة، ونصب فيه الاحتلال ثلاثة أبراج عسكرية تعتقل وتَعدم المقدسيين.

ومن صور التضييق الذي يمارسه الاحتلال يذكر عمرو أنّ بلدية الاحتلال في القدس عملت في الذكرى الخمسين لاحتلال المدينة على زراعة خمسين نخلة في مكان سوق "الفلاحين والفلاحات" التاريخي، الذي كان يعرض فيه الفلاحون من قرى شمال غرب القدس وبيت لحم منتجاتهم من الفواكه والأعشاب الطبية.

وقد حال جدار الفصل العنصري دون وصول الفلاحين إلى السوق، ولم يكتفِ الاحتلال بذلك بل أزال معالمه، لطمس كل النشاطات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الفلسطينية.

ويفرض الاحتلال حصارًا على أهل الحي، فأزال لافتات المحال التجارية، ويمنع بناء أيّ غرفة فيه منذ 55 عامًا، في حين يمر القطار الإسرائيلي الخفيف من وسط المصرارة.

وفي حزيران (يونيو) الفائت كشفت بلدية الاحتلال في القدس عن مخطط يفصل حي المصرارة عن باب العامود وباقي أحياء شرقي القدس، لتوسعة شبكة الطرق من الشيخ جراح شمالًا حتى باب الخليل غربًا، مرورًا بـ"المصرارة" والباب الجديد.

معارك متعددة

وللحي دور كبير في الصمود إبان النكبة الفلسطينية، تبعًا لحديث الباحث في تاريخ القدس أنور بن باديس، فقد شهد المصرارة قصفًا عنيفًا من العصابات الصهيونية في الرابع والعشرين من فبراير، ما أدى إلى استشهاد عدد من سكانه، ورد الفلسطينيون بالمثل؛ فتدخلت القوات البريطانية وفرضت الهدنة على الجانبين.

وبعد الهزيمة التي منيت بها قوات "هاجاناة" في معركة كفار عصيون في السابع والعشرين من فبراير في العام ذاته أطلقوا 20 قنبلة "هاون" على الحي؛ فاستشهد سبعة من الفلسطينيين، وجُرح أربعون.

ويوضح أنّ المناضلين العرب قصفوا مرابض "الهاونات الصهيونية" في حي "مياشورم" الملاصق للمصرارة بمائة قنبلة، أدت إلى نشوب كثير من الحرائق وقتل وجرح كثيرين ونزوح أهل الحي اليهود عنه، ثم اندفع المناضلون الفلسطينيون يبغون اقتحام الحيّ نفسه، ولكنّ القوات الإنجليزية المرابطة في مخفر للشرطة بين المصرارة و"مياشورم" حالت دون ذلك؛ فاضطر المجاهدون إلى العودة عن هجومهم.

ويتابع بن باديس: "بعد وصول أنباء بسقوط مدينتي حيفا ويافا بأيدي العصابات الصهيونية عاد أهالي حي مياشورم اليهودي إليه، ثم قصف حي المصرارة طوال ليلة 27 نيسان، الأمر الذي زاد من رحيل سكانه عنه، فلم يبقَ فيه سوى 130 مقاتلًا من العرب".

ويفيد أنّ العصابات الصهيونية بثّت إشاعات بسيطرتها على الأحياء الواقعة خارج أسوار البلدة القديمة، وأخذوا يطلبون من سكان "المصرارة" الرحيل، وخاض المقاتلون الفلسطينيون والعرب معركة عنيفة معهم أدت إلى طردهم من الحي بكامله.

ولكنّ "الصهاينة" عندما تـأكد لهم أنّ المقاتلين العرب يواجهون نقصًا في السلاح؛ شنوا هجومًا معاكسًا ليلة 16 مايو 1948م، وأعادوا احتلال المواقع التي أُجبروا على إخلائها، ومنها الحي، ثم شنوا هجومًا كبيرًا على الحي ونسفوا كثيرًا من منازله وعادوا من حيث أتوا.