لقد مللنا في فلسطين أن نناقش الأيديولوجيا والنظريات، وهذا ما قالته القدس في خضم 15 يومًا في الأحداث الأخيرة وفي أكثر من ثلاث سنوات من التنظيم الفطري، بلا أيديولوجيا وبلا مشروع سياسي كلاسيكي وبلا قيادات تخيط وتفصّل وبلا الكثير من الأدوات التي تُعتبر في السياق السياسي في الـ ٤٨ أو الضفة أو غزة أساسية وبدونها لا يكون شيء.
لكن تجربة القدس تقول فقط تنظيم، وتنظيم في ظل سقف وطني عالٍ جدًا، على أمل أن تتواضع الفصائل والأحزاب وتتعلم من تجربة القدس وتفهم عمق الفعل السياسي في القدس.
لا جديد في مزاج أهل القدس “التنح والعناد” المرابط والصامد والقابض، لا جديد في السباق نحو دفع الثمن والتضحية فهذا تنافس شريف فيه تتنافس الحارات والأحياء والقرى على مرتبة الحارة الأصعب والأقسى والتي قدمت شهداء أكثر من غيرها في مواجهاتها مع الاحتلال، هذا نعرفه ونسمعه ونوسمه للقدس وشبابها ونسائها وشيوخها وأطفالها ورجالها ونضع دماءهم وجروحهم شارة على جبيننا.
لكن الجديد هو التنظيم، لا حديث عن تنظيم بالمعنى البيروقراطي واللوجستي والإداري للتنظيمات، بل فطرية التنظيم وعشوائية التنظيم، والتنظيم غير المنظم. وإذا نظرت من الأعلى ترى في القدس أشخاصا يتطوعون في فضاء لا يخلو من المعادلات والمنظومات وكأنك في مصنع، كل في دوره وفي وظيفته، والأجمل أن في القدس أرضية لأن يكون لكل منا دوره في الشدائد.
أحد أشكال التنظيم الفطري والعشوائي كان في إمداد المرابطين والمصلين والمتظاهرين بالأكل والشرب عبارة عن تكوين جبهة داخلية في ظل الحرب على البلدة القديمة وحصارها، والمميز في هذا الجبهة الداخلية العشوائية المنظمة بالفطرة وبثقافة العونة وكرم الضيافة عبارة عن توسيع هامش الحواضن الشعبية المقاومة إذ كانت هذه الحواضن على جهوزية تامة لتقديم الأكل والشرب لفترة أكثر بكثير من ١٥ يومًا وهذا ما يدل عليه نفس طبخ الأمهات في البلدة القديمة، ووجوه المسنين وضحكات الفتيات.
إننا هنا على هذه القطعة من الجغرافيا ولن نتزحزح، وفعليًا هذا ما تم تحقيقه، أي إحباط العدو عن فعل تغييرات فوق جغرافيا المسجد الأقصى بمساحة ١٤٤ دونما، وهذه الجغرافيا تعني كل شيء. والإنجاز بمعنى إعادة السيطرة وفرض القوة فوق الجغرافيا وتحرير مواقع هو الانتصار في مشروعنا التحرري من استعمار استيطاني يستهدف الأرض في المقام الأول والباقي تفاصيل.
وعلى الصعيد النفسي لجنود العدو، كانت الوجبات الشهية والحلويات والمرطبات والفواكه بمثابة غصة وحرب نفسية على كل جندي يقف حاملًا عتاده الثقيل في مناخ ثلاثيني حار ينظر إلى ساندويشته المعلبة والجاهزة تارة وإلى أطباق المعتصمين الفاخرة تارة أخرى. وقد أتوا بجندي “إشكنازي” لا يعرف من القدس إلّا الرعب والخوف والتوتر وأسماء لجنود قتلوا في عمليات بطولية، طلبوا منه أن يقف ويراقب مجموعة من النسوة، وعلى ما يبدو أنه كان في فترة تدريب.
تأملته جيدًا لساعات، لم يبرح من مكانه ولم يغير وقفته ولم يحرك أصابعه عن بندقيته وبقي متيقظًا يراقب ويتابع التحركات واتجاهات النظر والأيدي ومسارات المشي مرعوبًا يصيح في داخله وكأنه ينادي أمه، أخرجيني من هنا وأريحيني من نظراتهم وجرأتهم ولا مبالاتهم وجكرهم. وتتجسد قمة الانكسار النفسي عندما يقرر أطفال البلدة القديمة أن هذا الجندي هو مسرح لعبنا ولهونا ونكشتنا لليوم.
فجأة ترى طفلًا يحمل صينية مزخرفة ومزركشة متشققة وطرفها تالف ينظر إليك ويأتي صوبك ويقدم لك معجنات السفيحة بالبندورة أو الطحينة ويقول لك “هلأ خبزناهم تفضل”. عندها تتيقن أنك في ضيافة الحارة ونسائها وأطفالها، وأنك لست وحيدًا رغم اختلاف اللهجات والمفردات سواء قدمت من الجنوب والنقب أو من المثلث والجليل أو الساحل، تشعر أنك في البيت منذ اللحظة الأولى.
رغم أنك تعي أن قلوب وأبصار مليارات البشر في هذه الأثناء تتجه نحو القدس، وأن الملايين تتابع وتكتب وأن قضية الأقصى اثارت الرأي العام العالمي، فتختلط عليك المشاعر بين المحلي والعالمي، وبين قوة وصلابة وعمق المحلي وبين ترهات العالمي وتحديدًا العربي.
تفكر كيف يمكن للعدو أن يهدم مثل هذا التنظيم؟ سيعتقل أكياس الرز؟ أم سيفرض غرامات على قطع اللحم الموزعة؟ تلتف وترى لهفة الأمهات عندما يأتي أطفالهن حاملين صنع أيديهن يغذي المرابطين ويزيد من عزيمتهم، ترى هذه الصينية المتشققة البالية في فعلها السياسي أقوى بكثير من خطب فوق منصات ووعود سقفها أوسلو، وتراها بين الناس تتجول وتطعم وتؤلف بين القلوب وتجمع الناس على صدق وحب وتضحية.
برأيي، لا يمكن قراءة الأحداث الأخيرة بمعزل عن سياق الانتفاضة أو الهبة الجارية في القدس منذ اختطاف واستشهاد الطفل محمد أبو خضير وحتى يومنا هذا. في هذه السنوات تحركت القدس بالمستوى القاعدي والشعبي وعمقت مفاهيم كبرى وأعادت تعريفها ووضعتها في سياقها الصحيح، إن كنا نود الحديث عن المتطوعين، المرابطات، المسعفين، شباب المواجهات والمنسقين الميدانيين.
من الشاب الذي بدأ ينظّم الأزمة تبعت السيارات، إلى آخر يقول “دخلوا بلايزكم جوا البنطلون في مستعربين”، للمرأة التي تطبخ في بيتها أو للشاب الذي يحضر مولوتوفا بمطبخ الحارة، للوعي أنه لا مجال لترك الشهيد يذهب وحده للثلاجات، لصاحب الدكانة البعيد جغرافيًا عن باب حطة ويقول لك بعد بيعك للماء “توكل ع الله بديش منك إشي”، للطفل الذي كانت وظيفته فقط تنظيف الأوساخ.
للذي قال للناس عن الطرق الالتفافية في الوصول للمسجد الأقصى والحارات والأبواب، للذين فتحوا بيوتهم للناس للنوم عندهم لزيادة عدد الناس المعتصمين، للشباب الذين كانوا يرشّون الناس بالماء لتخفيف الحرارة.
للكثير من الأدوار، والجميع يعرف دوره ووظيفته بدون الشعور أن هناك تنظيما أو حالة تنظيمية جارية في البلد، وكأن الكل كان ينتظر اللحظة ليبدع ويقدم ويساعد ويتطوع.
باختصار سريع، “صغّر حجرك، ارجع للحارة وارجع للجغرافيا، اشتغل هناك وتطوع هناك وتواصل مع الناس، وعدوى القدس وشخصية الأقصاويين وثقافتهم، ستنتقل وتتطور بأشكال وحلل أجمل وأفضل تنظيميًا وسياسيًا واجتماعيًا”.