فلسطين أون لاين

خواطر من وحي الهندسة والحياة.. هندسة الوضوء!

...
عمر عاصي

كثيرًا ما تنتابني رغبة جامحة، مجنونة. وأنا أراقب بعض أصحابي في المسجد وفي أثناء الوضوء، بالقفز أمامهم لإغلاق صنبور الماء. فبعضهم لا يحلو له الوضوء إلا وصنبور الماء يصطنع شلالًا يهدر الماء كما لو كان شلالات ناياغرا. بل وكأنّ إسراف الماء في الوضوء سنّة حسنة. يُنسيني ذلك دعاء الوضوء وأروح منشغلًا بفكري مستحضرًا مُحاضراتي في الهندسة البيئية، في علوم إدارة المياه وجودتها بل وحتى أسس ميكانيكا الموائع!!

الوضوء. عبادة أم كارثة؟

إنّ عدد المُسلمين في العالم يُقدّر بـ 1.7 مليار وعدد الصلوات 5 في اليوم ثم تخيّلوا أنّ بعض المسلمين يُسرف في كُل وضوء 5 لتر من الماء. فإنّ هذا يعني تحوّل الوضوء من عبادة إلى كارثة وهدر شنيع للماء في بلاد فقيرة للماء أساسًا.

تخيّلوا أنّ دراسة في جامعة الملك عبد العزيز نصّت على أنّ إعادة استخدام مياه الوضوء في سقاية الحدائق ودفع الفضلات في المراحيض وغيرها من الاستخدامات بعد تنقيتها في 75000 مسجد في السعودية سيُوفّر حوالي 410 مليون ريال سنويًّا. تخيّلوا فقط أنّ استهلاك المياه في الحرمين يصل في فترة الحج إلى 50 مليون لتر يوميًّا. فلماذا لا يُعاد استخدامها؟!

مياه الوضوء.. أكثر المياه الرمادية نظافة!

إعادة استخدام مياه الوضوء؟ نعم، ولم لا؟ مياه الوضوء التي نستخدمها كُل يوم تُصنّف علميًّا بأنها مياه رمادية (Greywater) والأبحاث حولها كثيرة جدًّا. أهم ما يجب أن نعرفه حولها هي بأنها كُل مياه لم تختلط بمياه الصرف الصحي (المرحاض مثلًا)، ومياه الوضوء تتميز بأنها أنظف من غيرها، ولأهل اليمن معها تجربة فريدة فيما يُسمى بالـ"مقاشيم"، وهي بساتين شيّدت بقرب المساجد وكانت تسقى من مياه الوضوء. 

وفي دراسة حديثة أجريت على مياه الوضوء في مسجد الملك عبدالله في الأردن، أثبتت أنه بالإمكان استخدام مياه الوضوء لري أشجار الزينة.. بل وأشجار الفواكه والخضار التي تؤكل مطبوخة. وهذا قبل التنقية، وليس الأمر ينحصر هنا، ففي جامعة السلطان قابوس في عُمان صمم فريق هندسي جهاز لمُعالجة مياه الوضوء في المساجد لا يُكلف أكثر من 400 دُولار يعمل وفق طريق بسيطة وذكية حيث يمر ماء الوضوء أولاً بطبقة من الرمل لتصفية المواد الصلبة، ثم بطبقة من الكربون المنشط لإزالة الروائح، وبعدها بمضخة كلور لإبادة الجراثيم وفي النهاية تتجمع المياه المعالجة في خزان أرضي متصل بنظام ري بالمرشات.

هندسة الوضوء... قبل 1000 عام

قبل ألف عام، صمم الجزري أول "روبوت" في التاريخ وكان عبارة عن (آلة الوضوء) كان ذلك بعد أن طلـب منه الخليفة أن يصنع آلة تغنيه عن الخدم كلما رغب في الوضوء للصلاة، الأجمل أنه لم يُرح الخدم فحسب بل إنّ كميّة المياه المستخدمة كانت محدودة ومقدرة مُسبقًا فلا إسراف ولا تبذير.

في أيامنا هذه قامت شركة ماليزية بابتكار آلة عصرية وبديعة للوضوء، تستهلك حوالي لتر ونصف على الأكثر لكل وضوء، وفي أيام مثل أيام الحج يستخدم الحجاج حوالي 50 مليون لتر لليوم، ولو استخدموا هكذا آلة فإنهم سيوفّرون حوالي 40 مليون لتر، ولكن المُشكلة أنّ هكذا آلة تكلف حوالي 3500 دولار، لهذا لا نراها في المساجد. 

النكتة أننا لو سألنا العُلماء عن كمية الوضوء التي كان يستخدمها الرسول في الوضوء سنجد الإجابة بسهولة: (مد واحد)، والمُد يُساوي 625 مللي لتر، وبكلمات أبسط يعني حوالي نصف قنينة ماء كبيرة فقط، ولم أجد شفيعًا لتفريطنا بالماء إلا بواحد من اثنين: إما بإعادة استخدام المياه فيما تصلح له وإما بالاقتداء برسولنا الكريم وبكلماته: "لا تسرف في الماء ولو كُنت على نهر جار".

مجلة "آفاق البيئة والتنمية"