صحيح أن الاحتلال لا يتوانى في الأيام الأخيرة التي تلت وقف العدوان على غزة عن تكرار ما حققه مما يعده إنجازات عسكرية، لكنه يعتقد أن ما شهدته غزة خلال الأيام الماضية هي جولة أخرى في سلسلة لا نهاية لها من جولات القتال، التي لا تتوقف بسبب استمرار الاحتلال والحصار.
من أجل ذلك استمعنا في الساعات الأولى لوقف إطلاق النار من الأوساط الإسرائيلية ما يمكن وصفه بمطالبات بترجمة ما تحقق من أداء عسكري إلى عمل سياسي، لكن ذلك يتطلب وضع إجابة لسؤال حول إذا ما كانت الحكومة الحالية الانتقالية، أو تلك التي ستُشكَّل بعد الانتخابات ستعرف أيضًا كيفية الحصول على درجة جيدة في اختبار التقدم نحو التسوية في غزة.
لا تكشف هذه السطور سرًّا إن ذكرت أنه في اللحظة التي وقف فيها أزيز طائرات الاحتلال وأصوات صواريخ المقاومة، فإن الجانبين شرعا في التحضير للجولة المقبلة، مع بذل جهود معينة لتأجيلها على الأقل، أو توسيع الهامش بين هذه الجولة والجولة التي تليها.
علاوة على ذلك، هناك قلق يساور الإسرائيليين أن ما عدوه نجاحًا عسكريًّا تحقق سيشجع حكومتهم على أن تقول لنفسها: لقد نجحنا، مع صفر إصابات، وعملية قصيرة، وأضرار جسيمة بالطرف الآخر، وهذا التقييم قد يخلق شعورًا بالرضا لدى دوائر صنع القرار الإسرائيلي بعدم الحاجة للتقدم مع الفلسطينيين نحو حلول أخرى، لعل أهمها وقف العدوان المتواصل على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وكبح جماح المستوطنين، والامتناع عن تدنيس الأقصى، فضلًا عن رفع حصار غزة.
هذا التأجيل بنظر الحكومة الإسرائيلية الحالية سوف يستدعي اليوم أو غدًا من الحكومة القادمة العمل على إيجاد حلول لما تعانيه غزة من مشكلات وتحديات، دون الحاجة إلى وضع يخرج فيه مئات أو آلاف المستوطنين في الغلاف من منازلهم، ويتجهون شمالًا، ليس من أجل الرفاهية والنزهة، ولكن خوفًا من البقاء في منازلهم بسبب الصواريخ المتساقطة عليهم من غزة.
لن يخترع الإسرائيليون العجلة فيما يتعلق بالحلول المطلوبة من وجهة نظرهم لما تشكله غزة لهم من تهديد مزمن، فهناك خياران أساسيان قد يبدوان متضادين، أولهما الانفصال التام بين دولة الاحتلال والقطاع، وثانيهما إعادة إعماره بمساعدة العالم، خاصة أنه لا توجد مستوطنات إسرائيلية في غزة، ولا مشاعر دينية قومية لليهود فيها، ولا أماكن مقدسة، ولا وعد كتابي مزعوم بالاستيطان فيها، كما هو الحال في الضفة الغربية المحتلة.
عدا ذلك، سيبقى الاحتلال متورطًا فيما يسميه "الوحل الغزاوي"، ويبقى جيشه يراوح مكانه بين الاستعداد لخوض المعركة التالية مع المقاومة في غزة، أو خوضها مباشرة، وهذا هو الاستنزاف بعينه!