فلسطين أون لاين

تقرير "اللهم ميتة لا غُسل فيها ولا كفن".. أمنية "ضياء" الأخيرة

...
الشهيد ضياء البرعي
غزة/ هدى الدلو:

اعتادت "أم ضياء" البرعي أن تتفقّد أبناءها في صباح كل يوم من أيام العدوان، خاصة ضياء الذي يخرج مبكرًا للعمل على "بسطة" قريبة من منزله.

في صباح يوم السابع من أغسطس/ آب أيقظت الأم شقيقه "بلال" ليطمئنّ عليه بالخارج، وبعد دقائق دخل عليها المطبخ ليسألها: "شو بدك تطبخي اليوم؟"، فأجابته: "بازيلاء"، ليقول لها: "نفسي فيها"، صمتت والدته متعجبة لكونه لا يحبها.

عاد ليُجهّز ويُرتّب بسطته التي تحتوي على الخضار والفاكهة في سوق مخيم جباليا، ثواني معدودة كانت الفارق بين خروجه وبين وقوع انفجار صاروخ إسرائيلي أسقط عليها الزجاج والركام وهي تقف في مطبخها.

اقتحم الرماد والغبار عيونها وأنفها حتى باتت لا ترى أمامها ولا تستطيع التنفس جيدًا، ولكنّ صوت ضياء في الخارج اخترق سمعها وهو ينادي بأعلى صوته "يمااااااا"، ردّت عليه دون أن يسمعها "يا حبيبي يما" لتسير وهي تتحسّس أمامها تنادي على بلال: "شوف أخوك".

خرج بلال فوجد ضياء مصابًا في رأسه، بالكاد يلتقط أنفاسه الأخيرة يطلب منه أن يتركه ويتفقّد أمه، ليستشهد ضياء تاركًا خلفه قلب أم مكلوم تبحث عنه في زوايا بيتها.

في تمام الساعة التاسعة والربع، ثالث أيام العدوان على غزة، ارتكب جيش الاحتلال جريمة إنسانية، بعد أن ألقت طائراته صواريخها على منزل سكني في مخيم جباليا بالمحافظة الشمالية بدون سابق إنذار راح ضحيتها شابان، من بينهما الشاب ضياء البرعي (32 عامًا)، والشاب أحمد عفانة الذي حاول إنقاذ ضياء فسقط عليه الجدار.

تقول والدته: "عندي خمسة أبناء وثلاث من البنات، مثل ضياء لا أجد، كنت في الماضي عندما أستمع للقاءات أمهات الشهداء أستهجن أحاديثهنّ بأنهنّ يتحدثن بأنه أحسن الأبناء، وأقول في نفسي معقول كلهم بيحكوا نفس الكلام، اليوم أنا مثلهن، تأكدت أنّ الله يصطفي أحسنهم".

قلب يغلي

لعل الظروف الصحية التي مرّ بها ضياء جعلت قلبها في حالة غليان دائم عليه، فمنذ أن كان في العاشرة من عمره، وفي أثناء مشاركته في إحدى المظاهرات باغتته رصاصة إسرائيلية في قدمه اليمنى وخرجت من اليسرى، فيما أُصيب ثانية برصاصة تسبّبت في كسور بالظهر ومكث في إثرها شهرًا في العناية المركزة. كما أُصيب برصاصة ثالثة في قدمه في أثناء مشاركته في مسيرات العودة.

وعن تلك الإصابة تقول الأم: "وعد بعد أن أُصيب في ساقه بألا يذهب ولكنه لم يستطع أن يتخلّف عن أقرانه الذين خرجوا بمسيرات سلمية، فأُصيب مرة رابعة، وفي إثر ذلك أُجري له نحو خمسين عملية جراحية في مستشفيات غزة وتركيا وألمانيا، وكان يُفترض أن يسافر لإجراء العملية الأخيرة خلال الأسابيع القادمة".

تقول والدة ضياء: "كان يفتقدني دائمًا بالحاجات دون أن أطلب منه، ويتصل بي في أثناء وجوده في السوبر ماركت ليسألني إذا كنت أريد شيئًا، حتى قبل استشهاده بيوم جلب لي كيسًا كبيرًا".

يقطع البكاء حديثها ثم تضيف: "يا حبة عيني يما، كان يقولي دايمًا أنا عايش بفضل دعواتك"، وتشقُّ على وجهها نصف ابتسامة: "كان دائمًا يعاكسني ويحكي لي: يا مزة".

تعود بذاكرتها قليلًا لتتذكر الجلسة التي عقداها معًا للتخطيط لزواجه والبحث عن عروس له، وأن يكون موعد الزفاف في يوم ذكرى ميلاده، وبعدها بأيام طلب من والدته تأجيل الأمر حتى يعود من عمليته التي كان ينوي إجراءها في تركيا.

ضياء.. دفتر مفتوح

أما شقيقته وفاء التي كانت تجلس بين المُعزّيات وتنصت لما يتحدثوا به عنه وهي تبكي، مسحت دموعها قائلة لـ"فلسطين": "كانت روحه متعلقة بأمي، ويحب أخواته البنات حنون علينا، دائم الاتصال يسألنا عن موعد زيارتنا، قبل فترة اصطحبني وأمي إلى المطعم وكان يمازحها، ليش زوجتيهم".

وتضيف: "كان يحب أن يجمع الناس حوله ويستضيفهم ويكرمهم، له أصدقاء من مختلف أماكن القطاع، كان بمنزلة دفتر مفتوح أمام الجميع، قلبه أبيض لا يحمل حقدًا على أحد، لكنه جبار على نفسه يضغط عليها لكي لا يؤذي غيره، والّلي في يده ليس له".

وتشاركنا زوجة عمه الحديث لتذكر موقفًا معه: "كنت أحب أن أشتري من عنده الخضار، نتحدث معًا، ثم ينتبه لنفسه ويقول لي: اتفضلي يا مرت عمي عند أمي وأنا بجيبلك اللي بدك إياه، وأمازحه أريد بضاعة نظيفة".

ضياء شابٌّ مدني لا علاقة له بأحد، وما كانت البسطة إلا سبيلًا لتساعده على الحركة والمشي، ولكنّ الصاروخ الذي باغته حوَّل المكان إلى خراب، تفوح منه رائحة الموت والدمار وذكريات مؤلمة لا يمكن نسيانها في إثر استشهاده ليهدم الاحتلال أحلامه ومخططه للزواج وبناء حياة مستقرة، واستكمال علاجه، وكان قد كتب على صفحته على الفيس بوك: "اللهم موتة لا غُسل فيها ولا كفن" ونال ما تمنى.