خمس جولات من القتال خاضتها المقاومة مع العدو الصهيوني فضلاً عن عمليات تصعيد تخللت هذه الجولات الخمس، صحيح أن المقاومة تقدمت في كل جولة وحققت نقاط قوة وفرضت قواعد اشتباك وكسرت محرمات كان يظنها العدو يوماً أنها لا تكسر مثلما كان يعتقد أن جيشه لا يقهر فقهرته المقاومة، ووصل الحال بالمقاومة إلى حد قصف عاصمة الاحتلال التي كان يعتبرها حرماً مصوناً وجعلت من الجبهة الداخلية للعدو أضحوكة بعد أن كانت أكثر الجهات أمناً واستقراراً في كل الحروب التي خاضها العدو ضد الدول العربية، فلقد كان يسمع المستوطنون بأخبار الحروب التي يخوضها جيشهم "الذي لا يقهر" على الأرض العربية فيدمر ويحرق ويقتل والمدن الصهيونية آمنة تماماً يلهو سكانها في المقاهي والشواطئ والنوادي الليلية إلى أن أخذت المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة فجعلت من دخول الملاجئ والبقاء فيها لأيام حركة اعتيادية للشارع الصهيوني وجعلت صفارات الإنذار طنيناً مرعباً لا يكاد يفارق آذان المستوطنين، بل لقد شلت المقاومة مطارات وموانئ العدو وجعلت من مدنه مدن أشباح، كل ذلك صحيح ولم يعد العدو قادرا على إنكاره خصوصاً بعد أن وثقته كاميرات التلفزة العالمية وبثته وسائل الإعلام بشكل مباشر لمتابعيها.
إذن لقد حققت المقاومة تقدماً كبيراً في فرض قواعد اشتباك واضحة مع العدو وجعلته يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على أي حماقة ضد الشعب الفلسطيني، ولقد توجت معركة سيف القدس قواعد الاشتباك تلك مع العدو حينما فرضت معادلة جديدة وهي معادلة وحدة الوطن والشعب حينما تصدت المقاومة لعربدة المستوطنين في القدس والشيخ جراح ثم جاءت الحرب الأخيرة بين العدو وحركة الجهاد لتؤكد هذه المعادلة.
إلا أن كل ما سبق لا يفترض أن يُغَيّب عن نواظرنا حقيقة أن أيا من المعارك التي خاضتها المقاومة لم تفض إلى حل سياسي يؤسس لمرحلة جديدة تنقل الشعب من مرحلة أوسلو التي ما زال عالقاً فيها منذ حوالي ثلاثين عاماً وهي مرحلة يهدف العدو إلى استمرارها لأطول فترة ممكنة.
أعتقد أن المقاومة بعد كل هذه التجارب مع العدو عليها أن تعيد حساباتها جيداً وأن تبدأ في الإعداد لمرحلة كفاحية جديدة تخرج فيها من جمود دائرة الفعل الميداني المقاوم باتجاه ربطها بدائرة الفعل السياسي، بمعنى أن أي معركة ستخوضها المقاومة في المستقبل أو ستفرض عليها ينبغي أن تفضي إلى اتفاق سياسي ليس أقل من رفع الحصار بالكامل عن قطاع غزة، ورفع يد الاحتلال عن الضفة الغربية، وأظن أن هذا الهدف يتوق لتحقيقه الشعب الفلسطيني، فإذا احتضن شعبنا المقاومة وهي تدافع عن القدس والشيخ جراح سيكون أكثر التفافاً وصموداً واستعداداً للتضحية من أجل تحقيق السيادة برفع الحصار الذي نحت المنظومة الحياتية والمعيشية لأهل غزة حتى كاد يصل العظم منها.
امتعضتُ كثيراً وأنا أشاهد مذيع الجزيرة يسأل الصديق حسام الدجني لماذا تُعْتَبر بديهيات الحياة حلماً لأهل غزة؟ لماذا لا يكون لأهل غزة مطار وميناء مثل بقِية شعوب العالم؟
وتساءلت في نفسي: ألم يأن للمقاومة التي أشعلت حرباً من أجل أسيرين أن تشعل حرباً لأجل القضية الوطنية الكبرى؛ وهي تحقيق سيادة الشعب الفلسطيني على أرضه؟ ألم يحن الوقت أن يرفع الحصار عن قطاع غزة الذي يذل مواطنوه يومياً على المعابر حتى أصبح الذل جزءا من حياة المواطنين؟ وهل يليق بأهل غزة الذين علموا العالم الصمود والفداء أن يعاملوا بطريقة أقل ما يقال فيها أنها حاطّة بالكرامة الإنسانية، وهل من المنطق أن تخوض المقاومة خمس جولات قتال ثم تبقى الضفة الغربية مسرح لاعتداءات المستوطنين؟ وهل يجوز أن تبقى المدن الفلسطينية في الضفة الغربية مستباحة ليل نهار من قبل قوات الاحتلال؟ إذن لا بد أن يكون للمقاومة كلمة واحدة ونهائية وأن تكون معركتها القادمة مع العدو تحمل عنوان رفع الحصار وكنس الاحتلال، ولذلك أظن أن الحكمة تقتضي ألا تقدم المقاومة على خوض أي جولات قتال جديدة مع العدو إلا إذا كانت بسقف تحقيق السيادة، فلم يعد لجولات القتال التي يصمد فيها شعبنا وتبلي فيها المقاومة بلاءً عظيماً ثم تنتهي الحرب بمقولة "لقد لقنا العدو درساً لن ينساه" قيمة، فالعدو لن ينفك عن ممارسة اعتداءاته وسيبقى متحكماً في تفاصيل حياتنا ومبقياً عليها بين خط الحياة والموت، وإذا لم تكسر المقاومة هذه الحلقة فلن يكون مقنعاً لشعبنا بعد اليوم أداءً قتالياً عالياً وتضحية غالية وصموداً أسطورياً بلا ثمن يلمسه شعبنا أمناً وحرية وسيادة.