لخص وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس المشهد المتوتر في غلاف غزة بالقول: إن الحياة لن تكون طبيعية في قطاع غزة ما دام روتين الحياة غير طبيعي في مستوطنات غلاف غزة، التي اشتكى المستوطنون فيها من حالة الإغلاق المترافقة مع حالة الرعب الناجمة من إعلان حالة الطوارئ القصوى، خوفا من رد المقاومة على الاقتحامات والاعتقالات الأخيرة لمخيم جنين، والتي أسفرت عن اعتقال القيادي في الجهاد بسام السعدي واستشهاد الشاب جهاد الكفريني.
المواجهة في جنين سرعان ما انتقلت إلى غلاف غزة، بتحوله إلى منطقة حرب قيدت حركة المستوطنين، وأوقفت القطارات وحركة النقل بشكل كامل دون أن تطلق المقاومة رصاصة واحدة، فالوساطات لم تنجح في إنهاء حالة الاستنفار في صفوف مقاتلي حركة الجهاد الإسلامي، ما دفع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية للإعلان عن مواصلة إغلاق غلاف غزة ليومين إضافيين بعد مداولات أمنية أجريت مساء أمس، الأربعاء داخل الحكومة المصغرة للاحتلال (الكابينت) التي أبقت على حالة التأهب في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي في غلاف غزة.
قرار الكابينت سار بالتوازي مع استمرار إغلاق معبري (بيت حانون ـ إيريز) و(كرم أبو سالم التجاري) معيقا بذلك انتقال العمال من قطاع غزة للأراضي المحتلة عام 48، ودخول أو خروج البضائع من وإلى القطاع المحاصر، فالاحتلال يحاول منع المواجهة من خلال رفع الكلف الاقتصادية بعد أن فشلت آلية الردع العسكرية في تحقيق أهدافها في ردع المقاومة وفصلها عن الضفة الغربية إذ رفعت المقاومة وحركة الجهاد مستوى التأهب والاستنفار في صفوفها معلنة نيتها الاشتباك مع الاحتلال.
تآكل الردع الإسرائيلي
القلق الإسرائيلي من انزلاق المشهد المتوتر إلى مواجهة واسعة ومحاولاتها المضنية تجنب التصعيد عبر الوساطة المصرية والقطرية، وتقديم رسائل إعلامية تؤكد الحالة الصحية والنفسية الجيدة للقيادي المعتقل عبر صور منشورة للسعدي في أحد مراكز الاعتقال والتحقيق تؤكد أن الاحتلال يسعى لتجنب مواجهة لم تنجح قدرة الردع الإسرائيلية في منعها.
المواجهة وتفاصيلها ويومياتها كشفت عن تراجع الثقة بقدرة الردع الإسرائيلية وطرحت أسئلة مهم حول إمكانية مواصلة الاحتلال انتهاكاته في الضفة الغربية دون الدفع بقوة نحو مواجهة مع المقاومة، فالموقف المرتبك والمتردد للاحتلال دفع الكثير من الصحفيين والإعلاميين الإسرائيليين إلى القول: إن المقاومة انتصرت دون أن تطلق رصاصة.
في حين ذهب آخرون إلى القول: إن قدرة الردع الإسرائيلي انهارت، وذهب غيرهم إلى القول: إن حالة الارتباك والهلع من رد المقاومة مهينة، فبدل معاقبة (الإرهابيين) عاقبت المستوطنين في غلاف غزة، وكان أبرز تعليق ليوسي يهوشع في صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية بالقول: إن إيقاف القطارات وإغلاق الطرق في الجنوب لليوم الثاني خشية الرد على اعتقال مطلوب (وليس اغتيال) في جنين، بالفعل يدل على مشكلة في الردع.
تسلسل الأحداث التي أعقبت اقتحام جنين واعتقال القيادي في الجهاد تؤكد تآكل نظرية الردع الإسرائيلي، ذلك أن حرص الكيان المحتل على سلامة القيادي المعتقل والمخاوف من رد فعل المقاومة وإنعاش القنوات الدبلوماسية والوساطات واللجوء إلى الأدوات الاقتصادية، تؤكد عبثية ومحدودية قدرة الردع العسكرية الإسرائيلية، وانعدام ثقة الاحتلال وقادته بقدرة جيشه على المواجهة أو تحقيق أي نتائج.
القيود والمحددات السياسية الإسرائيلية تجاه المقاومة
تآكل قوة الردع الإسرائيلي أربكت الاحتلال وقادته وشككت في قدرتهم على تنفيذ وتمرير مشاريعهم في الضفة الغربية دون الاشتباك مع المقاومة في قطاع غزة، أو توسع المواجهة لما هو أبعد من ذلك جغرافيا وديموغرافيا، وهذا بدوره أشعل الهواجس الإسرائيلية في إبعاد أربعة مخاوف أصبحت من الثوابت والمحددات الاساسية لأي تحرك أمني أو سياسي إسرائيلي ويمكن تلخيصها بالآتي:
أولا: الخوف الدائم من الانزلاق إلى مواجهة أوسع مع حزب الله في ظل مناخ التوتر في البحر المتوسط على خلفية تعثر الوساطة الامريكية في الوصول إلى تسوية حول الحدود البحرية، واقتراب موعد العمل في حقل كاريش للغاز في شهر أيلول (سبتمبر) المقبل.
ثانيا: قلق إسرائيلي من أن تفاقم المواجهة مع المقاومة من الأزمة السياسية وتدخل الكيان في نفق سياسي مظلم بعد إجراء الانتخابات الخامسة للكنيست تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل تحول دون تشكيل حكومة وتعمق الانقسام المجتمعي والنخبوي في الآن ذاته.
ثالثا: تفاقم الضغوط النفسية والأمنية على الاحتلال بعد أن كشفت تقارير أمنية نشرتها الصحافة الإسرائيلية (صحيفة إسرائيل هيوم وهآرتس) تؤكد عدم جاهزية جيش الاحتلال لخوض غمار مواجهة برية مع حزب الله، وعدم توافر الاستعدادات للدفاع عن المنشآت البحرية، إذ كشفت التقارير فشل رئيس الأركان أفيف كوخافي في إنجاز وتطوير لقدرات جيش الاحتلال رغم أنه أمضى ثلاث سنوات ونصف في منصبه.
رابعا: تراجع قدرة الاحتلال على التموضع الإقليمي والدولي خصوصا تجاه دول التطبيع العربي أو تجاه روسيا في أوكرانيا والصين التي دخلت في مواجهة مع الولايات المتحدة في جزيرة تايوان مؤخرا.
ختاما.. لم تكشف المواجهة الأخيرة عن تآكل قوة الردع الإسرائيلي وفقدان الثقة بقدرات جيش الاحتلال على تنفيذ مهام عسكرية ناجحة لحماية المستوطنين فقط، بل وكشفت في الآن ذاته مآزق السلطة وأجهزتها في رام الله وعجزها وانعدام فاعليتها السياسية والأمنية في التصدي للاقتحامات والانتهاكات اليومية للاحتلال في القدس والضفة الغربية، مقابل تطور قدرات المقاومة وفاعليتها السياسية والعسكرية في قطاع غزة.
المقاومة تحولت بذلك إلى فاعل أساسي ومؤثر في مسار الأحداث في الضفة الغربية عبر ربط المواجهة في مخيم جنين بقدرات المقاومة في قطاع غزة وللمرة الثانية بعد معركة سيف القدس العام الفائت أيار (مايو) 2021، التي ربطت بين القدس وقطاع غزة وأراضي الـ48 في الوقت ذاته.
وأخيرا فقدت السلطة مبررات وجودها أمام التطور الحاصل في قدرات المقاومة وفاعليتها السياسية والعسكرية في ردع الاحتلال وفرض شروطها عليه وإعادتها الارتباط الجيوسياسي بين الضفة والقطاع، وهذه نتيجة مهمة ومحرجة للاحتلال ولقادة السلطة المراهنين على المسار الاقتصادي والنهج العبثي الذي تمثله قيادة السلطة في رام الله بصفتها نموذجا يضاهي المقاومة في أثرها وفاعليتها السياسية والأمنية بل والاقتصادية.