استحكمت واستغلقت الحالة الفلسطينية واستدارت الأزمة كسوار فولاذي حول معصمي الشعب الفلسطيني فكبلته على نحو يمنع حركته وديناميكيته التي عُرف بها إلا من بعض المبادرات والاعتصامات التي ما زالت تتوالى تترى وكأنها ضربات مطرقة من خشب على صخرة صماء لا تكاد تحدث أثرًا مرجوًّا.
المبادرات والاعتصامات التي تتوالى من شخصيات ونقابات أحسبها تتجاوز فكرة المبادرات والاعتصامات فتصل إلى حد الاستغاثات والمناشدات للخروج من الوضع المزري بالغ السوء الذي وصلت إليه الحالة الفلسطينية ولسان حالها يقول بلهجة يائسة هل إلى خروج من سبيل؟
إلَّا أن ردًّا ولو عابرًا لم يلامس أسماع من يطلقون المبادرات أو يعتصمون أو يشجبون أو يستنكرون وكأنها مأساة إغريقية يعيش فصولها الشعب الفلسطيني بلا نهاية.
من أبأس مشاهد تلك المأساة أن القيادة الفلسطينية التي تصم آذانها عن أي مبادرات أو دعوات أو اعتصامات تدعو للخروج من الأزمة تراها تنفتح بشكل مثير للشفقة على كل شاردة وواردة تأتيها من خارج البيت الفلسطيني فتصغي وتهتم وتدرس بعمق وعناية، بل وتبرر وتحور وتحسن الظن بكل ما يأتيها من خارج دائرة الفعل الفلسطيني، وبالمقابل لا تكاد تصدر أي رد فعل على الصدمات المتتالية التي تتلقاها، فمثلًا لم يلحظ الشعب الفلسطيني أي رد فعل على اعتبار الرئيس الأمريكي بايدن -الذي يؤمن بحل الدولتين- أن حل الدولتين أصبح بعيد المنال، هذا الحل الذي هو عماد البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الذي من دونه يصبح أي فعل فلسطيني رسمي باتجاه هذا الحل نوعًا من العبث السياسي الذي لا طائل منه، بل إن بعض القيادات الفلسطينية المتنفذة أشادت بالزيارة واعتبرتها اختراقًا مهمًّا في الموقف الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية.
كذلك لم يلحظ الشعب الفلسطيني أي رد فعل يذكر على سرقة المال الفلسطيني الشحيح أصلًا من قبل الاحتلال إذ صادر من أموال المقاصة (600) مليون شيقل باعتبارها -حسب زعمه- صرفت على الإرهاب، مع التزام السلطة الفلسطينية التزامًا تامًّا بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، ولم يجابه هذا التصرف سوى ببعض العبارات المنمقة والمدروسة بعناية حتى لا تثير غضب الاحتلال.
وأيضًا لم يلحظ الشعب الفلسطيني أي رد فعل على عمليات الاقتحام المتكررة للمدن والقرى الفلسطينية واغتيال واعتقال أبناء الشعب الفلسطيني من قبل قوات الاحتلال والتي كان آخرها اعتقال الشيخ بسام السعدي بذلك الشكل المهين دونما أي اعتبار لوجود شيء يسمى "سلطة فلسطينية" تمتلك أجهزة أمنية يفترض أنها أنشئت لحماية الشعب الفلسطيني ويخصص لها ما يزيد على 20% من الموازنة السنوية التي بلغت نسبة العجز فيها حوالي 558 مليون دولار.
والأمثلة على تناقض مسارات القيادة الفلسطينية مع توجهات الشعب الفلسطيني بنخبه ومثقفيه وفصائله كثيرة، ومع ذلك كان شعبنا يأمل أن تتوقف القيادة الفلسطينية عن المضي قدمًا في مشروعها الذي استنزف الشعب الفلسطيني منذ ثلاثين عامًا عندما نفضت الإدارة الأمريكية الديمقراطية "المعول عليها فلسطينيًّا" ممثلة بالرئيس بايدن يدها بوضوح من حل الدولتين فأصبح في عرفها بعيد المنال، وكان يأمل شعبنا أن تعود القيادة الفلسطينية للعمل بقرارات المجلس المركزي ومقررات مؤتمر بيروت الذي جمع الأمناء العامين للفصائل تلك القرارات التي حظيت بإجماع الشعب الفلسطيني، ولكن يبدو أن العلاقة مع الاحتلال أسكرت القيادة الفلسطينية ويبدو أن حالة السكر هذه قد تحولت لحالة إدمان لا تجد القيادة الفلسطينية للبعد عنه سبيلًا.
جملة القول لم يعد للمبادرات والاعتصامات والمناشدات قيمة في ظل وجود القيادة الفلسطينية الحالية ومثلنا نحن الشعب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية يجسده قول الشاعر عمرو بن معد الزبيدي:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد