فلسطين أون لاين

تقرير المقامات والزوايا.. ميراث الصوفية والعباد والزهاد الزائرين لفلسطين

...
مقام الخضر - دير البلح
غزة/ فاطمة الزهراء العويني:

في قطاع غزة مقامات وزوايا أثرية تؤكد الأهمية التاريخية لقطاع غزة عبر العصور، وتكشف جزءاً من تاريخها الذي شهد حكم العديد من الملوك والأُسر، فتعكس تلك الآثار جزءاً مهماً من فترة الحكم الإسلامي للبلاد.

ففي مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، يقع مقام الخضر، الذي يعد أحد المباني الأثرية المهمة على بُعد حوالي (200) متر من مركز المدينة الحالي، ويُنسب المقام إلى "القديس جرجس"، واسمه يعني (الخضر) باللغة العربية.

تقول خبيرة الآثار بوزارة السياحة والآثار بغزة هيام البيطار: "يبدو أن المقام قد أقيم فوق دير مسيحي أقدم منه، ويؤكد ذلك بعض النقوش اليونانية والتيجان الكورنثية والأعمدة الرخامية".

وأورد عثمان الطباع في كتابه "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة" وصفاً للمبنى الحالي الموجود في دير البلح، وقال: إنه "مسجد فيه محراب يحتوي على ثلاث قباب وساحة، ومن تحته غرفة تحت أرضية (قبو)، كانت تعد عند العامة مزارًا لأحد الأولياء الصالحين يتباركون به.

ويشير الطباع في كتابه إلى أنه يتم النزول إلى الغرفة السفلية للمقام بعشر درجات، وفيها قبر يتجه من الغرب إلى الشرق، قيل إنه لأحد الأساقفة اليونان، ويوجد عليه بلاطة بها كتابات باللغة اليونانية، وأخرى عليها أثر لصليب. 

وبالعودة للبيطار فهي تؤكد أن وزارة السياحة والآثار بغزة اهتمت بالمقام، وحصلت على تمويل صيانة وترميم له من منظمة "اليونسكو" وذلك في عام 2015م، حيث نفذ أعمال الصيانة والترميم للمقام مركزا "إيوان" في الجامعة الإسلامية، و"رواق" في الضفة الغربية، مقابل استفادة جمعية نوى للثقافة والفنون من المقام ليكون مكتبة أطفال.

عمارة فريدة

بدوره، يبين مسؤول المشاريع في مركز عمارة التراث "إيوان" بالجامعة الإسلامية محمود البلعاوي أن مقام الخضر نموذج معماري فريد من حيث نمط البناء وتشكيل الفراغات الداخلية والخارجية. 

ويشير إلى أن "قباب المقام" مرتكزة على أعمدة رخامية في الزوايا، ويوجد محراب في الجدار القبلي لأحد هذه الفراغات، ويوجد في الساحة الخارجية وتحديداً بجوار المدخل حوض للمياه مغطى بقبة صغيرة ترتكز على عمود رخامي صغير".

ويقول: "يتميز المبنى بوجود العناصر المعمارية الفريدة منها: المدخل الصغير والمتواضع والمطل على الساحة السماوية (الفناء) وهو العنصر الأكبر مساحة، والعقود المخموسة المدببة التي استخدمت في جميع فراغات المبنى، إضافة إلى أن الفراغات تطل على الساحة السماوية بعقود مخموسة واسعة من الحجر ترتكز على أكتاف حجرية عريضة".

ويضيف: "القباب والأقبية التي استخدمت بالشكل الكروي، ترتكز على مثلثات كروية من الدخل لتسهيل الانتقال البصري من الشكل الرباعي للجدران إلى الشكل الكروي للقبة".

وتحتوي زوايا المبنى في الطابق الأرضي –وفق البلعاوي- على أعمدة رخامية منتهية بتاج كورنثي مزخرف استخدمت كعناصر إنشائية. كما يحتوي المبنى على العديد من أرضيات البلاط الصخري الملون.

شاهدة على العصر المملوكي

وفي حي الدرج بالبلدة القديمة في مدينة غزة تقع " الزاوية الأحمدية" التي تنسب إلى الشيخ أحمد البدوي، أحد أشهر علماء الصوفية الذين عاشوا في غزة، كما توضح البيطار.

وحول هوية الشيخ البدوي تقول: "ولد وعاش في مدينة طنطا بمصر حتى بلغ الحادية والأربعين من عمره، انتقل إلى مدينة غزة حيث توفي ودفن فيها سنة (674هـ/1276م)، وسُمي بالبدوي لأنه كان يغطي رأسه ووجهه دائماً، وقد شكل أتباعه في مصر وخارجها طائفة صوفية تُعرف بـ(الأحمدية)".

وتعد الزوايا أحد الأماكن الدينية التي ازدهر بناؤها خلال العصر المملوكي في فلسطين، وهي مقر رجل من الأتقياء أو بيته، يجمع حوله جماعة من التلاميذ، وفيها مصلى، واتسمت بالبساطة والتقشف.

ويعتقد – وفق البيطار- أن القبر الرخامي المبني بالقرب من الحائط الجنوبي يعود للأميرة المملوكية "قطلو خاتون"، التي يعتقد أنها موَّلت بناء الزاوية الأحمدية.

ويذكر النقش الموجود على القبر اسم الفقيدة وتاريخ وفاتها الموافق: (ربيع الأول 733هـ/ كانون الأول 1332م)، إضافة إلى اسم والدها وهو "بهادر الجوكندار"، الذي كان أحد أبرز أمراء الطبلخانة في دمشق، وكان أيضاً أميراً على خمسين فارساً.

وتتميز الزاوية بغرفتها المضلعة ذات ستةِ عقود مُدببة، ويوجد بها محراب ضخم جميل، أما قبتها الشاهقة فهي محمولة على رقبة أسطوانية، بها اثنتا عشرة نافذة، إضافة إلى الأقبية المتقاطعة التي تُغطي الإيوانات، ويقع في الجزء الشمالي من الزاوية غرفة كانت تستعمل قاعة لإلقاء المحاضرات ومكاناً للاعتزال، أما الجزء الجنوبي منها فكان مُصلى للعبادة.

عصر الطرق الصوفية

وفي السياق ذاته، يفيد البلعاوي بأن الزوايا شاهد على فترة قدم فيها إلى فلسطين بعد الفتح الإسلامي عددٌ غفير من الصحابة والتابعين والزهاد للاعتكاف في المسجد الأقصى وما حوله، ثم ازداد عدد القادمين لها لما شكلته من أهمية دينية.

ومع قدومهم ظهرت مؤسسات أخرى للعبادة وإقامة الشعائر الدينية، وبدأت بالانتشار مع العصر العباسي ثم المملوكي والعثماني في شتى أنحاء فلسطين.

وفي تلك الفترة انتشرت في مدينة غزة كبقية مدن فلسطين الطرق الصوفية، كما يوضح البلعاوي، ولمع شيوخها وظهر أتباع لهم، وظهرت معهم زوايا التعبد والتصوف التي أقاموها، ووجد العديد من الزوايا فيها مثل زاوية الهنود وزاوية العسكر، ولم يتبقَّ اليوم بسبب ضعف الرقابة حول تدمير المباني والمعالم الأثرية سوى الزاوية الأحمدية، مشيراً إلى أن مركز إيوان حصل على منحة في مايو الحالي ٢٠٢٢ لتنفيذ أعمال الترميم والصيانة للمبنى.

وفي حي الدرج يوجد أيضاً "مقام الشيخ أبو العزم"، ولم يتبقَّ منه سـوى قبة ضريحية حديثة البناء، أنشأتها وزارة الأوقاف والشئون الدينية لتضم رفات الشيخ أبو العزم؛ وهو الشيخ (شمس الدين أبو العزم)، من أتقياء المغاربة الذين هاجروا إلى مدينة غزة في القرن (التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي)، وبعد وفاته، انتقلت ذريته إلى مدينة القدس واستقرت فيها.

تكية أبي العزم

وتبين البيطار أن تاريخ إنشاء المقام يعود إلى العصر المملوكي، وقد أنشأه والي غزة "قانصـوه قرا" عندما قدم الشيخ أبو العـزم إلى غزة فـي نهاية عصر المماليك، وذلك في عام 908هـ/1502م.

ويتضـح مما ورد فـي الـوثائق الشـرعية أن هذا المقام قد ظل قائماً فـي العصر العثماني حيث أطلق عليه اسم "زاوية أبو العزم"، وأوقف عليها مجموعة من الأوقاف.

وقد وصف هذه الزاوية الرحالة التركي "أوليا شلبي" وأطلق عليها اسم "تكية أبي العزم"، كما أشار الرحالة النابلسي إلى الضريح قائلاً: "إنه في مكان مستقل وعليه عمارة".

وظل هذا المقام – كما تبين البيطار - قائماً حتى حملة "نابليون بونابرت" على بلاد الشام، فهدمه عند عودته من مدينة عكا، ثم جُدِّدَ في أواخر القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، واتُّخِذَ مكتبة لتعليم الأطفال.

وقد ذكر الطباع أنه قرأ به عام 1310هـ/1893م، ثم هُجِرَ وخُرِّبَ بسبب الحرب العالمية الأولـى، وهُدِمَ إيوانه مع بابه والسبيل الملحق به لتوسيع الشارع المجاور له.

وقالت: "سار المقام وفق التخطيط الإيواني، وكان يشتمل علـى سبيل مـاء، وربما كان يعلو السبيل المذكـور (كُتاب) لتعليم أيتام المسلمين، كما أن هذا المقام كان ملحقاً به قبة ضريحية ضمت رفات الشيخ أبي العزم".

وتلفت البيطار إلى أنه قد شاع بين العامة والباحثين أن هذا الضريح هو ضريح "شمشون الجبار" الذي جاء ذكره في التوراة، ولكن هذه التسمية غير صحيحة.