تُعَدُّ مسألة مشاركة فلسطينيِّي الداخل المحتل في الانتخابات البرلمانية للعدو الإسرائيلي، من القضايا الإشكالية منذ نشأة الكيان الغاصب في أرض فلسطين. وأثيرت، ولا تزال، مجموعةٌ من التساؤلات المشروعة بشأن جدوى المشاركة، ومدى مساهمتها في تحقيق أهداف فلسطينيّي الداخل المحتل، وانعكاسها على صورة العدو الخارجية.
فهل كانت المشاركة لمصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه؟ أم أنّ العدوّ استغلّها لمصلحته من دون أيّ مقابل سياسي أو حتى مطلبي يصبّ في مصلحة الفلسطينيين بصورة عامة، وفلسطينيّي الداخل المحتل، على وجه التحديد؟
سعى العدو الإسرائيلي، منذ نشأته، لتذويب الهوية الوطنية الجمعية للشعب الفلسطيني، عبر تشتيته في ساحات متعدّدة، والعمل على خلق هويات فرعية تتأثّر بالجغرافيا والديموغرافيا، اللَّتين فرضتهما تداعيات ما بعد النكبة الفلسطينية، والرهان على عاملَي الزمان والمكان من أجل تحويل الهويات الفرعية الناشئة إلى هويات جديدة منفصلة عن الهوية الوطنية الأُمّ.
شكّل فلسطينيو الداخل المحتل، الذين بقَوا داخل المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، معضلةً كبيرة أمام صانع القرار الصهيوني، الأمر الذي دفعه إلى إعداد برامج "الأسرلة" وتنفيذها، على نحو يهدف إلى فصلهم عن هويتهم الوطنية الفلسطينية، وإدماجهم في إطار "الهوية الإسرائيلية"، الأمر الذي لم ينجح، إلى حدّ بعيد، بسبب عدد من العوامل، أبرزها العوامل الذاتية الفلسطينية، من خلال تمسُّك فلسطينيي الدخل المحتل بهويتهم الأُم، ومساهمة حركات وتنظيمات ومؤسسات فلسطينية في الداخل المحتل في عملية التوعية والتعبئة، وطنيًا وقوميًا ودينيًا، ومواجهة مخططات "الأسرلة" وتذويب الهوية، إضافة إلى العامل الإسرائيلي وفشله في إدماج الفلسطينيين داخل مجتمع العدو بسبب سَنّ قوانين عنصرية وتهويدية، مثل قانون القومية، وتصاعد التيار الديني والتيار القومي المتطرفَين في مجتمع العدو المعادي لكل ما هو فلسطيني وعربي، إلّا إذا اعترف بيهودية الدولة، وقَبِلَ أن يكون مواطنًا من الدرجة الثانية في أرضه ووطنه.
ساهمت اتفاقية أوسلو عام 1993 في تراجع ثقة فلسطينيّي الداخل المحتلّ بالقيادة الفلسطينية الرسمية، بسبب تجاهلها التام للشعب الفلسطيني في الداخل المحتل، واعترافها بشرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بما فيها المدن الفلسطينية، الأمر الذي عدّه قطاع كبير من فلسطينيّي الداخل المحتل طعنة في ظهره، وقام في إثر ذلك الشاعر الفلسطيني محمود درويش بتقديم استقالته من منظمة التحرير الفلسطينية.
إلّا أن تطور المواجهة الفلسطينية مع العدو، واستبسالَ المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن القدس المحتلة والمسجد الأقصى، ولا سيما في معركة "سيف القدس"، في أيار/ مايو 2021، أعادا ثقة فلسطينيّي الداخل المحتل بقيادة المقاومة، وعزّزا هويتهم الوطنية الفلسطينية، وساهما في استعادة الوعي الجمعي تجاه وحدة الهدف العام، وربطا الساحات الفلسطينية كافةً بهذا الهدف، وهو التخلص من الاحتلال وكنسه من الأرض الفلسطينية.
لم تشارك حركات فلسطينية في الداخل المحتل في انتخابات العدو منذ عام 1948 حتى عام 1988، وكانت مشاركات فردية ومعزولة، إلى أن قام عبد الوهاب دراوشة بإنشاء الحزب الديمقراطي العربي، الذي يُعَدّ أول حزب فلسطيني خالص يعترف به العدو، وفيما بعدُ نشأت أحزاب متعددة شاركت في انتخابات العدو.
انقسمت توجُّهات فلسطينيّي الداخل المحتل بشأن مسألة مشاركتهم في انتخابات العدو إلى تيارين. الأول أيّد المشاركة، مسوغًا ذلك بالعمل من خلال منبر برلمان العدو، الكنيست، على الدفاع عن حقوق فلسطينيّي الداخل المحتل ومواجهة العنصرية الصهيونية. والثاني رفض المشاركة حتى تاريخه، ويرى عدم وجود فائدة في المشاركة السياسية، في كل أنواعها، وعلى رأسها الانتخابات البرلمانية، لكونها لا تحقّق أدنى الحقوق الفلسطينية، سياسيًا ومطلبيًا، وأنها لم تساهم، طوال الأعوام الماضية، إلّا في تبييض وجه الاحتلال، الذي استغلّ المشاركة الفلسطينية في العملية السياسية الإسرائيلية، وعلى رأسها الانتخابات العامة، وقام بتسويق نفسه أمام العالم بأنه كيان ديمقراطي يحترم حقوق "الأقليات" ويراعيها، حتى لو كانت فلسطينية عربية. كما أنه استغل عضوية أحزاب عربية في الكنيست في تمرير أخطر القوانين العنصرية، ولم تفلح تلك الأحزاب في مواجهة تلك القوانين أو إجهاضها، فضلًا عن فشلها في مواجهة التغوّل الصهيوني على فلسطينيّي الداخل المحتل ومصادرة حقوقهم وممتلكاتهم، وإهمال مدنهم وقراهم.
من جانب آخر، يؤكد التيار المعارض للمشاركة الانتخابية والمشاركة السياسية، أن تصاعد التيّار الديني والتيار القومي المتطرفَين في مجتمع العدو المعادي لكل ما هو فلسطيني وعربي، لن يُبقي لفلسطينيّي الداخل المحتلّ أيّ خيارات إلّا الصمود والتحدّي، والتمسك بالحقوق، ومواجهة سلوك العدو العنصري تجاههم، في كلّ السبل المتاحة.