فلسطين أون لاين

​بجوار "الأقصى".. شَبانة يبيع الجرائد في كُشكه العتيق

...
غزة / القدس المحتلة - هدى العف

لقد ملّت أقفال الكُشك لكنّه لم يكلّ، وعلى مدار ستين عامًا متواصلة بقيَ الحاج يحيى شبانة يدوّر مفاتيحه العتيقة داخل "قفل كشكه" قرب باب العامود، ويرقب عبره مراحل الزمن وهي تعبر أمام المكان وعبر صفحات الجرائد المنثورة على بسطاته.

التجاعيد طبعة للزمن وليست هيئة جسدية فقط، خاصة عندما تحتوي ريح القدس المعبّق بالفكر والمخزّن بالحكايا، أحاديث ناطقة لرجلٍ يتجوّل فوق صفحات التاريخ يحمل في جعبته حبًا وصمودًا، وذلك ليس غريبًا على أهل القدس أبدًا.

قبل الاحتلال كان صوتُه في القدس، ذلك لأن سنوات حياته "الخمسة والسبعين" أكبر من عمر الاحتلال نفسه، وبكاءه حين ولادته في البلدة القديمة كان أقوى من التهويد والاستيطان والمصادرة، ولأن أبواب الأقصى كانت شاهدة على خطوات الصبا، وعلى تعليمات الشباب، وعلى حكمة الستين وصمود السبعين.

بالتوارث، تملّك الحاج يحيى شبانة "أبو عماد" كُشكه الصغير قرب باب العامود المؤدي إلى المسجد الأقصى، ومنذ كان فتى في عمر الخامسة عشر بدأت قدماه تشق الطريق إلى محلهم الصغير حتى أصبحت مهنته رسميًا بعد وفاة والده.

يقول أبو عماد (75 عامًا) في حديثه لـ"فلسطين": "إن الجرائد كانت تأتي إلى كشكنا من غالبية الدول، وليس غريبًا أن تصلنا جرائد لبنان وسوريا والعراق التي أذكر منها "جريدة الكفاح، والسفير والأنوار"، لكن تغيرت أسفار البلاد وأحوالها وفعلت الحدود فعلتها معنا عندما أصابتنا لعنة الاحتلال".

تغيرت الأحوال، لكن لم يتغير جدوله اليومي؛ لم يزل أبو عماد يستيقظ كعادته كل يوم مبكرًا جدًا، تأخذه خطاه في الرابعة فجرًا إلى الكُشك لاستلام الجرائد من مصدرها، ووضعها في الكشك حتى بعد صلاة الفجر، ثم يعاود افتتاح محلّه بعد الصلاة وبيع زبائنه، الذين عقدَ معهم علاقات وديّة قبل أن تكون تجارية، وهذا ما أسمى محله الصغير "كُشك الفجر".

وأوضح أبو عماد، أن البلاد كانت مفتوحة قديمًا؛ أما حركة الناس والبضائع والزوار، فلا حدود مانعة ولا حواجز، أما الآن فالقدس محاصرة بعد كان كافة أهالي فلسطين يزورونها، وهو ما أثّر بالطبع على حركة البيع والشراء وما عقبه من تراكم الضرائب، كما اضطر لإدخال تغييرات على الكُشك وبيع النثريات النسائية واللوازم لمواكبة السوق بعد ركود السنتين الماضيتين.

وأما عن مضايقات الاحتلال، أشار إلى أن بلدية الاحتلال في القدس فرضت عليه ضرائب عالية "أرنونا"، كبدَّت كاهله ثقلًا إضافيًا على ضعف الحركة الشرائية في المكان، كما منع على إثرها من السفر لأداء مناسك الحج.

كما يتعرض الاحتلال للأهالي في القدس، لا سيما أصحاب الأملاك القديمة قرب المسجد الأقصى والطرق المؤدية إليه، والعمل على الضغط عليهم لترك أماكنهم وتمكين الاحتلال من الاستيلاء عليها، لكن صمود المقدسيين وثباتهم يحول دون ذلك، ويفشل مساعي الاحتلال.

وعن صمود القدس، أنشد أبو عماد شعرًا حروفه مقدسة ومقدسيّة، حيث تغنى بصمود المقدسيين خلال 14 يومًا أمام إجراءات الاحتلال ونصب البوابات الالكترونية والكاميرات الذكيّة، وقال: "كنت واحدًا منهم ورابطت معهم على أبواب المسجد حتى فتح باب حطة ودخلنا المسجد مكبّرين، في مشهد اشتقنا له حقًا".

وبحسب الحاج أبو عماد، فإن أهالي القدس صمدوا كثيرًا ورابطوا 24 ساعة يوميًا على أبوابه حتى تحقيق ما يريدون، فلا كلمة في القدس لغير أهلها، ولا قرار إلا لنا، بحسب تعبيره، مؤكدًا أنه وبرغم سوء حالته الصحية وعدم مقدرته الجسدية إلا أنه كان يرقبهم ويحتشد معهم نصرًة للأقصى.

أبواب المسجد الأقصى جميعها بوابات تخترق القلب صعودًا إلى سماء الحُب، لكنّ أقربها إلى قلب الحاج شبانة هو باب المجلس لقربه منه ولأنه كان عبوره الأول للصلاة، ثم باب حطة والحديد والأسباط.

أما عن الأحياء والأماكن فأقربها إلى روحه هو منطقة باب السلسلة والبلدة القديمة وطريق الواد وخان الزيت، حيث ولد وترعرع، ويصفها بأنها "جنة المشتاق" وهي تحتوي بحسب وصفه على أماكن سياحية ومحلاتٍ أثرية وشعبية كانت قبلة الزوار دومًا.

تزوّج الحاج يحيى من رفيقة دربه "أم عماد" عام 1969م، وسكن في حي الطور بجانب جبل الزيتون، وبقيت تلازمه زوجته الأزمات والمواقف والرحلات، أنجب منها 7 أولاد وفتاة، كانت القدس شاهدة على خطواتهم الطيبة، ونجح الكشك الصغير في تخريج أطباء ومتعلمين من كنف الرجل الطيّب الذي أوصاهم بالعلم على الدوام.

لم يكن توجيهه لهم بضرورة التعليم هو وصيته الوحيدة، لقد كانت القدس حاضرة دومًا، وهو ما يوصي به عامة الناس ويقول في كلّ يوم: "لا أتخيل حياة دون القدس لو غبت عنها ما بقدر أعيش، إنها إن جُرحت جرحنا، القدس حياة للإنسان وبوصلة الوطن، إنها روح الشعب الفلسطيني، مشان هيك ما تنسوش القدس".