الساعة تدق السادسة صباحًا يفترض أن توقظ هذه السيدة محمد ليتناول إفطاره ويرتدي ملابسه مغادرًا البيت إلى مدرسته، لكن هذا لم يحدث مُطلقًا، فإما أن يستيقظ بنفسه متأخرًا كالعادة فيلحق بجرس المدرسة وهو يَأذن ببدء الدوام أو يتغيب نتيجة تأخير كبير فيذهب مُسرعًا لِيحضر الخضار طازجة من السوق ويُلبي طلبات خالته اللامتناهية أمرًا وطوعًا وجبرًا وحبًا وكرهًا.
ربما لم يكترث هذا الصغير يومًا بإرهاقه من كثرة طلباتها ومن دور الأب والأم الذي يقوم به تجاه أبنائها الذين هم إخوانه مُطلقًا؛ لكن روحه تتوق لكَلمة دافئة، لِلمسة حانية، لرفقٍ طيّب وصوتٍ رقيق، فما ضرها لو اعتبرته ابنها الأول أو الأخير!، الغريب أنها أُم وتتقن الحُب والرحمة مع صغارها بينما تبخل بالقليل القليل منهما لقلبٍ طفلٍ يتيم.
"لا شيء يُمكن أن يعوض فقد الأم أبدًا" هذه قاعدة ثابتة في الحياة مهما طال الزمن أو قصر ومهما مر على جبين الفقد من عقود وليالٍ وأيامٍ طوال، ما ضرَّ زوجة أبي محمد لو غطته في الليالي الباردة وهي تُغطي أبناءها، ما ضرها لو أعطته مصروفًا معهم؟ ما ضرها لو وبخته بعيدًا عن العيون؟ وما ضرّها لو قبلتهُ صباحًا معهم.. قُبلة واحدة كان يمكن أن تُزيح جبالًا من وجع وحُرقة القلب.
ذاك الكف الذي لُطِم به على وجهه، هل تظن زوجة أبيه أن عشرين أو حتى أربعين عامًا كافية لتمحي آثار اليُتم عن وجنتيه، وتراه كان كفًا واحدًا فقط وتبعه أنامل تمسح دمعة العينين المنسدلة أم كانت غلظة القلب التي جاءت في كل كلمة بكفٍ ولطمة وكسرٍ لا تجبره الأيام وإن ضحكت له بعد حين.
"محمد اليتيم" وهذا الشهيق الصامت الممتد، والوجع المترف الزُهد ونظرة العيون المنكسرة تلك، مَن لها دونك أيتها الخالة؟ ولمّا أن جاء بكِ أبوه لتكوني أميرة في مملكة غيرك وتصبحي سيدةً في بيتٍ هجرته صاحبته، هل نسيتِ أن تُمثلي دور الأم على ذاك الصغير وتؤويه وتحتويه وتمسحي على رأسه وقلبه!
محمد هو بطل خيالي لقصتي هذه، لكنه يوجد في كل بيت فقدت فيه شجرة المحبة الوارفة ورائحة الياسمين الآسرة، وضحكة القلب الصادقة.. ألا إنها "الأم".