عبد الرحمن صلاح أو كما يلقب داخل السجون "شيخ الأسرى"؛ أسيرٌ يطرق أبواب السبعين عامًا، يتكئ على عكاز صبرٍ، وهو يحمل وطأة تسعة عشر عامًا قضاها خلف قضبان الاحتلال وحقيبة أمراض مزمنة ينخره ألم المفاصل ويزيد صعوبة الحياة داخل السجن انعدام البصر.
حرم من جميع المناسبات السعيدة التي مرت على عائلته وكان الحاضرُ الغائب، فتزوجت بناته الخمس وابنه فادي، واستشهد ابنه محمد، واستشهد ابنا شقيقه آخرهم يوسف صلاح قبل أسبوعين في جنين، أصبح لديه ثلاثة عشر حفيدًا لا يحفظ إلا أسماءهم وفي كثير من الأحيان تخنه الذاكرة لتقدمه في السن، أفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار وأعيد اعتقاله عام 2014، ليسلبه الاحتلال الحرية مرتين.
اُعتقل لأول مرة في 23 حزيران/ يونيو 2002، وحكم بالسجن لـ(25) عاماً وأفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار بعد عشر سنوات من الأسر، وأعاد الاحتلال اعتقاله في 18 حزيران 2014، وأعاد إليه حكمه السابق، حيث بلغت سنوات اعتقاله تسعة عشر عامًا.
الشهر الماضي، كانت ابنتاه رشا (38 عامًا) ومي وزجته على موعدٍ مع زيارته بعد عامين ونصف من المنع بحجة "فيروس كورونا"، عطل السجانون العائلة على أبواب السجن، بذريعة عدم "وجود زيارة لوالدهم مدرجة على الكشوفات"، البنات والأم اللواتي قطعن مسافة كبيرة من جنين لسجن "النقب" في الصحراء، وجلبن صور أحفاده معهن، أصررن على أن يروين عطش شوقهن لوالدهن برؤيته، وأمام شد وأخذ بين الطرفين، أذعن السجانون.
الزيارة لم تكفِ
يتكئ على عكازه، يكتسي رأسه باللون الأبيض ولحيته التي أصبحت بحجم قبضة اليد، يقف وحيدًا وهو لا يزال ينتظر عائلته يحاول بما بقي له من نظر العثور على صورهن بين الحاضرين، بينما يجلس الأسرى أمام ذويهم ويفصل بينهم عازل زجاجي، إلى أن لمحته ابنته، أول ما شدها، اتكائه على عكازٍ.
"أخبرنا أبي أنه قدم لطلب إجراء عملية جراحية لدى الاحتلال، وطوال الفترة الماضية كانت المماطلة سيد الموقف بحجة أن "الأمر وراثي"، والمفارقة أنهم حددوا موعد تشخيص حالته في وقت زيارتنا، وخيروه بين الزيارة أو التشخيص، فاختار رؤيتنا لشدة شوقه".. تحرك ابنته رشا بقية التفاصيل لصحيفة "فلسطين".
لشخص يعاني من ضعف السمع وانعدام الرؤية، كان يحتاج إلى ضعف مدة الزيارة البالغة خمسة وأربعين دقيقة، حتى يستطيع سماع بناته، تقول: "لم يستطع التفريق بيني وبين شقيقتي، عندما أحدثه كان نظره يتجه نحو أمي، ترتجف يداه، بصعوبة يتحدث، كما أن تشويش الاحتلال على سماعات الهاتف أعاق حديثنا، أدخلنا له صورة أحفاده استغرب من كبرهم، لم يميز أخي فادي عن زوج أختي، وكل هذا يظهر حجم تدهور وضعه الصحي بالسجن".
ويعاني صلاح من ضعف بنسبة 90% في عينه اليسرى، في حين فقد الرؤية تماماً في عينه اليمنى، وتم إخباره بأن لا علاج لوضعه الصحي، في حين أنه لا يزال يعاني من آثار صداع وشعور بالدوار بعد تركيب أجهزة التشويش في سجن النقب، إضافة إلى معاناته منذ زمن من مرض ديسك في الظهر ومرضَي السكري والضغط المزمنين.
كسر القيد
بعد عشر سنوات من الأسر، وقبل خمسة عشر عامًا من موعد انتهاء محكوميته، حدثت صفقة "وفاء الأحرار" وأدرج اسمه عبد الرحمن صلاح من بين المحررين، في يوم الصفقة، استعد لاستنشاق الحرية من جديد، لحظاتٌ محفورة في ذاكرة ابنته: "كانت فرحتنا به كبيرة، وفرحته بالحرية أكبر، أول شيء فعله زار قبر أخي لأنه حرم من مواراته بالثرى، كانت لحظات صعبة فتحت الجرح، كان يذهب لزيارة أصدقائه، يحب المشي في شوارع جنين، الذهاب لسوق الخضار، يحب الاجتماع مع بناته الخمس وابنه فادي وأحفاده، جل وقته أمضاه بين الناس كان يكره العزلة".
عند أسره كان لديه بنتان برياض الأطفال، وبعد الصفقة وجدهن بالتوجيهي والثانية بالجامعة، يرتفع صوت ابنته هنا: "كان يصطحب شقيقتي معه وكأنهن لا زالتا طفلتين، يشتري لهن الحاجيات من السوبرماركت، كان يحاول تعويضهن عن كل اللحظات التي حرمن منه، لكنه أعيد اعتقاله وتزوجن أيضًا ولم يحضر زفافهن كما لم يحضر أي مناسبة زفافٍ لأيٍ منا، وحرم من رؤية أبنائهن وكل أحفاده الذين بلغوا الآن ثلاثة عشر حفيدًا".
خلال عامين ونصف تنسم خلالهم عبق حرية مقيدة، منعه الاحتلال مغادرة جنين، وكان يذهب لحاجز عسكري كل نهاية أسبوع يوقع على أنه موجود بالمحافظة، ورغم تأقلمه مرغمًا على هذا الحال، لكنه لم يتقبل لحظة منعه أداء مناسك الحج، يتحرك المشهد أمام ابنته: "يومها بكى بشدةٍ بعد منعه من أداء الحج وهذا الرفض يطالنا أيضًا وإن سمحوا لنا كما فعلوا معي عام 2017 يحتجزوننا عشر ساعات خلال الذهاب والعودة للتحقيق وتنغيص الحياة".
بدأ صلاح، حياته المقاومة مبكرًا وانخرط في كل مراحل الثورة وخاصة في الانتفاضتين، وكان أحد مقاومي كتائب القسام ومقرب من القائد بالكتائب نصر جرار، تستحضر ابنته لحظة المطاردة: "جاؤوا إلينا وفجروا مدخل بيتنا، وفتشوا الحارة، لكن أحد العملاء أبلغ عن مكانه تحصنه في بيت "حماه" واعتقل بطريقة وحشية، ووجهوا تهمة له أنه استشهادي".
بعد اعتقاله كان ابنه محمد (17 عامًا) وكونه البكر، مسؤولًا عن شؤون البيت، الثامن من نوفمبر/ تشرين ثاني 2003 تاريخٌ لا تنساه رشا التي ألقت على روح أخيها السلام: "وردت أنباء عن اقتحام قوات الاحتلال للمخيم، فخشي محمد على أخي فادي الذي كان بالصف الخامس الابتدائي، فذهب لإحضاره من المدرسة، وخلال مسيره حدثت مواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال فشارك في رجمهم، وأثناء تقدمه نحو إحدى الدبابات قنصه جنديٌ إسرائيلي، فحاولت الدبابة التقدم للمرور على جسده، لكن الشبان خلصوه لكنه استشهد".
في السجن كان الأسير صلاح يقرب الراديو إلى أذنيه يستمع إلى أخبار جنين إلى أن نعى المذيع ابنه، فغاب يومها عن الوعي، قبل التفاف الأسرى حوله، موجهة شكرها للأسرى داخل السجون "بصدق هونوا عليه مرارة السجن، فرجل بعمره يحتاج إلى رعاية خاصة، وهم يقومون بذلك ويعتبرونه والدهم وفي اعتداء الاحتلال الأخير على سجن النقب كانوا يحمونه من الاعتداء".
اعتقاله الثاني لا يفر من حديثها: "توقعنا اعتقاله لأن جيش الاحتلال اقتحم البيت وهدد بأنه سيعيد اعتقاله إذا انخرط في المقاومة من جديد، رغم أن حالة والدي الصحية قد ساءت لدرجة أنه يرى الأشياء خيالات، حتى جاؤوا في حزيران/ يونيو 2014 واقتحموا البيت واعتقلوه وبعد عام سمحوا لنا زيارته".
قبل أيام استشهدت الأسيرة سعدية فرج الله (68 عامًا) بنفس عمر والدها نتيجة الإهمال الطبي وهي تعاني من أمراض مزمنة، وهذا ما يبث الخوف في قلب ابنته على مصيره: "لحظة الخبر رأيت أبي، فعائلتها، طالبت كما طالبنا بالإفراج عنها مرات عديدة، أتساءل: "هل سأحتضن أبي!؟" أم سيحتضنه القبر قبلي".
يحل عيد الأضحى المبارك غدًا، فيأتي أعمامها لزيارتها دون والدها كما في كل عيد باستثناء أربعة أعياد كانت هي الأجمل في حياتها عندما زارها والدها لحظة الإفراج عنه في الصفقة، لتبقى رشا وشقيقتها يعيشن "فرحة مكسورة" بتغييب والدهن خلف القضبان.