"إن مجلس الأمن الأمريكي بعد تحليل جنائي "مفصل للغاية"، لم يتمكن من التوصل إلى نتيجة نهائية فيما يتعلق بأصل الرصاصة التي قتلت الصحفية الأمريكية شيرين أبو عاقلة.
ما سبق هو بيان الخارجية الأمريكية حول التحقيق الذي أجراه مجلس الأمن الأمريكي بعد تسلمه الرصاصة القاتلة التي استخرجت من رأس الصحيفة المغدورة شيرين أبو عاقلة.
ومن دواعي الاستهجان الشديد أن بيان الخارجية الأمريكية قد ذكر أن خبراء المقذوفات خلصوا إلى أن الرصاصة أصيبت بأضرار بالغة ما حال دون التوصل إلى نتيجة واضحة! طبعًا يعلم جيدًا خبراء التحقيق الأمريكيون وعلى وجه الخصوص خبراء الأسلحة والذخائر أن التعرف إلى الرصاصة ونوعيتها ومواصفاتها ستدل حتمًا على السلاح الذي أطلقت منه تحديدًا -وليس نوعه فقط- ومن ثم التعرف إلى شخصية القناص الإسرائيلي ومن ثم رؤسائه في العمل وطبيعة الأوامر التي تلقاها، الأمر الذي سيساعد الادعاء العام على تكييف الجريمة بشكل سلس وسهولة نسبة الجريمة لمرتكبيها، وهذا ما تتقنه أجهزة التحقيق في البلدان الأقل كثيرًا في خبرات التحقيق من الولايات المتحدة.
ما يثير الاستغراب والاستهجان حقًا أن سلطات التحقيق الأمريكية لفرط براعتها في التحقيق وكشف الألغاز الأشد تعقيدًا في تاريخ الجريمة، استطاعت التوصل إلى فك طلاسم جريمة مضى على ارتكابها حوالي ثلاثة آلاف عام، وهي جريمة قتل الفرعون المصري "توت عنخ آمون" الذي تولى الحكم عام 1354 قبل الميلاد وتوفي عن عمر يناهز 18 عامًا بشكل غامض، ذلك الفرعون الذي اكتشفت مقبرته عام 1922 تعد ومومياؤه الأشهر بين الآثار المصرية.
تقول الرواية التاريخية إن "نفرتيتي" ملكة مصر في تلك الحقبة الغابرة من التاريخ رغبت في تولي "توت عنخ آمون" الحكم عقب وفاة والده الفرعون أخناتون عام 1353 قبل الميلاد، إلا أن قائد الجيوش الفرعونية وكان يدعى "حور محب" وكبير الكهنة أصرا على تولي شقيقه" سمنخ كارع" السلطة، فقامت الملكة "نفرتيتي" بقتل هذا الأخير وزوجت "توت عنخ آمون" لابنتها "أخته غير الشقيقة" وولته السلطة ثم مات بعدها بشكل غامض ولم يبلغ بعد سن العشرين.
في عام 2016م حضر إلى مصر ضابط أمريكي من FBI والتقى د. زاهر حواسي وزير الدولة لشؤون الآثار المصرية، وأكد ذلك الضابط الأمريكي لحواس أن لدى الـFBI دليل قاطع على أن الملك توت عنخ آمون مات مقتولًا، وأن تحقيقات FBI أكدت أن أداة الجريمة كانت بلطة أحدث قطع خلف الرأس، أما عن الأشخاص المشبه بهم فهم "سمنج كارع" شقيق توت عنخ آمون مشتبه به أول وقائد الجيش "حور محب" مشتبه به ثانٍ وقد أكد الضابط الأمريكي لحواس أنه حضر إلى مصر ومعه ملف القضية كاملًا والأدلة التي تؤكد اغتيال الملك الفرعوني "توت عنخ آمون".
ما سبق من معلومات نشرتها جريدة الشرق الأوسط في عدد 14 يناير 2016 رقم العدد 13561، وقد عرضت قناة الجزيرة الوثائقية فيلمًا وثائقيا حول هذا التحقيق المثير أجراه محققان من FBI يدعيان "مايك كينغ" "غريغ كوبير" وهنا يثور السؤال كيف لسلطات التحقيق الأمريكية التي تمتلك أكثر أجهزة المعامل الجنائية تطورًا على مستوى العالم وتستخدم آخر ما وصلت إليه تقنيات التكنولوجيا الحديثة تعجز عن التعامل مع رصاصة مستخرجة من جثة شيرين أبو عاقلة في الوقت التي تستطيع هذه التقنيات الكشف عن جريمة مر على ارتكابها ثلاثة آلاف عام وتحدد وسيلة القتل المستخدمة فيها والمشتبه بهم!
لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال واضحة وهي الإجابة المعروفة عند الفلسطينيين ولا تحتاج إلى كثير بحث ألا وهي التواطؤ الأمريكي، هذا التواطؤ الذي تسبب في مآسٍ كثيرة للشعب الفلسطيني ووفر دائمًا الغطاء لمجرمي الحرب الصهاينة للإفلات من العقاب.
لقد كان واضحًا من السلوك الأمريكي منذ اللحظات الأولى لارتكاب الجريمة أن الإدارة الأمريكية لن تذهب أبدًا باتجاه إدانة (إسرائيل) ذلك أنها أدانت الجريمة على لسان وزير خارجيتها بلينكن دون أن تدين الجاني، ولذر الرماد في العيون طالبت بتحقيق مستقل شرط ألا تحال الجريمة لمحكمة الجنايات الدولية! وكأن محكمة الجنايات الدولية جهة غير مستقلة أو أنها ربما متواطئة مع الفلسطينيين! رغم أننا كفلسطينيين لنا تحفظ شديد على أداء المدعي العام لهذه المحكمة السيد كريم خان لم يحرك أي ساكن منذ توليه منصبه من حوالي عامين في الجرائم التي أحالتها دولة فلسطين لمحكمة الجنايات الدولية منذ عام 2014 والتي قطعت زميلته السابقة فادو بن تسودا شوطًا مهما فيها وصل لفتح تحقيق رسمي.
الولايات المتحدة تخشى إحالة جريمة قتل شيرين لمحكمة الجنايات الدولية وسعت بكل قوة إلى إجراء تحقيق بعيدًا عن هذه المحكمة لتكون النتيجة وفقًا لما أعلنته وزارة الخارجية الأمريكية مؤخرًا.
وإن كنا قد تعودنا هذا الخذلان الأمريكي للقضايا الفلسطينية فإن اللوم يقع على عائق السلطة الفلسطينية التي خضعت للضغط الأمريكي وسمحت من خلال "التعاون الفلسطيني الإسرائيلي الأمريكي" المشترك في التحقيق بأن تسير الأمور لتصل لهذا الموقف المشين، وكان يفترض بها أن تفي بوعدها الذي قطعه الرئيس عباس أمام جثمان الشهيدة شرين في المقاطعة حينما أكد في كلمة تأبينها إحالة القضية لمحكمة الجنايات الدولية، ولكن يبدو أن الزيارة المرتقبة للرئيس بايدن للمنطقة جعلت من الوفاء بهذا الوعد عملًا متعذرًا، ويبدو أن أهمية زيارة بايدن للمقاطعة من وجهة نظر الرئيس عباس وفريقه أهم كثيرًا من دماء شيرين أبو عاقلة، فليست شيرين في النهاية إلا رقم من عدد كبير من الشهداء الفلسطينيين الذين نالت منهم آلة القتل الصهيونية.