ينبغي لموسم الحج أن يحدث نقلة نوعية في المجتمعات المسلمة، وهو غير مقتصر على من يذهب للحج، وإنما هو عبادة تشترك فيها الأمة المسلمة برمّتها، وخير دليل على ذلك أن مسك ختامها يكون عيدا يشارك فيه كل عناصر الأمّة الإسلامية. وهو ترقية على صعيد هوية الأمة الثقافية وروحها الدينية وترقية على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والفكري والاقتصادي والسياسي، سأحاول في هذه المقالة تقليب بعض الصفحات والتجليات السياسية للحج:
-
الحج بداية هو قرار ذاتي ينحاز فيه المسلم إلى المشروع الإسلامي وإلى ما يريده الإسلام منه، يترك أهله وماله وكل رغباته وشهواته وكل ارتباطاته في حياته الخاصة إلى صبغة الله الكاملة له مجيبا وملبيا "لبيك اللهم لبيك" لكل ما هو مطلوب منه، تماما كالجندي في المعركة، من البداية أنت لست ملك نفسك، ولست ملكا لأحد ولا سلطانَ لأحد عليك، وإنما هي ولاية الله وسيادته الكاملة عليك، وهذه الطاعة الكاملة والمحبة الكاملة لله لها تبعات أهمها أنك تقرّر أنك لن تكون لغير الله ولن تقبل بأي هيمنة على نفسك وحياتك إلا لله "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام:162)، فبداية الحج قرار بالحرية والتحرّر، وهذه تشكّل بداية العمل السياسي القائم على القرار السيادي المستقلّ المتحرّر من أي سيادة لغير الله. وهذه تعني أن المسلم لا يمكن أن يقبل احتلالا أو استعمارا أو دولا تعيش التبعية السياسية أو الاقتصادية للاستعمار، أو تفكّر بالتطبيع أو التعايش أو التفهّم أو الخضوع أو الالتقاء بمنتصف الطريق لأي ظالم. إن أوّل ما ينبغي للحج أن يفعله هو الانحياز للحق في مواجهة الباطل، والانحياز لمحور المقاومة في مواجهة محور التبعية والاستعمار، سياسيا الحج يحدّد الاصطفافات الصحيحة سياسيا على أساس الغايات العليا لدين الإسلام، ومنها تحقيق حرية الإنسان، وهي أمر مرتبط بعقيدة التوحيد لهذا الدين، وليست مسألة فقهية هامشية. "فلبيك لا شريك لك"، عملية تحرير شاملة من كل شراكة باطلة لا تنسجم وتتوافق مع الاستجابة الكاملة لله. فالسياسة في الإسلام مرتبطة بشكل كامل بالحرية التي يعمل الإسلام بشكل نوعي لتكون قيمة عظيمة مزروعة في أعماق القلوب ولها تطبيقاتها الكاملة في الواقع السياسي والاقتصادي.
-
أن يترك الحاج كل الألبسة الملوّنة ويلبس البياض بأبسط صوره دون زينة أو مخيط إشارة واضحة إلى تميّز هذا الإنسان في انحيازه للمشروع الإسلامي الذي لا يقبل التلوّن أو التهجين من هنا وهناك أو اختلاط المناهج والبرامج، إنما هو لون واحد يحقّق الغايات والأهداف الخالصة من كلّ شائبة، أخطر ما يعانيه المسلمون هذه الأيام في العمل السياسي هو عمى الألوان، وحضور الأجندات الخارجية التي تحرف البوصلة، الحج يقول للمسلم: احفظ لونك الأبيض النقي، السياسة المرتبطة بالمبادئ والأخلاق النقيّة الصافية التي لا تختلط بسياسة الآخرين الطاغية التي تريد صهر الوعي وإذابة المسلم في مكرهم والضياع في دهاليز سياسات الظالمين فتذهب بروحها وأصالتها وتوهن أركانها.
-
الطواف حول الكعبة له رسالة سياسية واضحة، خاصة ونحن نشهد على أناس يحملون من الأفكار الغريبة عن الفكر الإسلامي، فيدورون في فلك سياسات الدول التي أنتج مفكروها تلك الأفكار، وتجد من الدول من يدور قراره السياسي في فلك دول الاستكبار العالمي المهيمنة عليه، فلا يخرج عن طوعها أبدا، الطواف حول الكعبة رسالته التحذير الشديد من أي طواف في فلك غير فلك الإسلام، ومع العلم أننا في الأمور المعلومة في الدين بالضرورة من السهل أن نضبط إيقاعنا، أمّا في الشأن السياسي الذي يتطلب الاجتهاد وإعمال العقل ورؤية المقاصد والقدرة على تحقيق المصالح دون الخروج من المبادئ، فهذا يحتاج إلى المزيد من الجهد كي لا نخرج في اجتهاداتنا عن أصولنا الإسلامية الصحيحة التي تحقّق المصالح العامة للناس، وتضبط إيقاع العمل السياسي بطريقة ناظمة وناجحة.
-
سأختصر المدلولات السياسية للحج، وأختم برجم إبليس الذي يجسدّه الحاج بطريقة عملية تمثيلية توحي بالمفاصلة التامّة بين المشروع الإسلامي ومشروع الشيطان مهما كان مسمّاه، فكلّ من يتناقض مع الأهداف العليا لهذا الدين -وهي بالمناسبة تنسجم تماما مع ما يصب في مصلحة البشرية بشكل كامل– ليس له من المسلم إلا الرفض والرجم، فمشروع الاحتلال الإسرائيلي مثلا لا يمكن أن يكون الحلّ معه بالتفاوض أو القبول بأي طريقة معه غير الرجم، لا يمكن النظر إليه إلا من زاوية النقيض للنقيض، وهذا تحديد لمعالم قواعد الاشتباك واللعبة السياسية، فكما هو كيان إحلالي جاء ليزرع نفسه عنوة في بلاد غير بلاده فلا أقلّ من أصحاب البلاد إلا التعامل بهذه الطريقة التي لا تقبل حلول الوسط ، ليس له منا إلا أن نكون مشروع مقاومة وتحرير، هذه بكلّ وضوح رسالة رجم إبليس في الحج، ليس لكلّ مشاريع الباطل والظلم والطغيان ومن يمارسون العدوان إلا الرجم والعمل من موقع النقيض لهذا الباطل.
-
ينبغي في موسم الحج أن يقام على هامشه أو بعد الانتهاء من أداء الفريضة مؤتمر سياسي يحضره ممثلون من الراسخين في العلم من الدول المسلمة تناقش فيه قضايا المسلمين، خاصة القضية المركزية للأمة قضية فلسطين للوصول إلى توصيات تأخذ بعين الاعتبار، ثم لتصبح فعلا تراكميا كل عام في موسم الحج.
فهل تسمح السلطة القائمة على الحج بإقامة مثل هذا المؤتمر؟!