إن مخاطر وتداعيات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي لا تقف عند حدود القضية الفلسطينية، بل تمتد إلى ما هو (أبعد وأخطر)؛ فالأمة الإسلامية هي "المستهدف الرئيس"، والاحتلال يسعى إلى إشغالها واستنزافها بعيدًا عن الاهتمام بالقضايا المركزية، ويحرص على المساس بثوابتها الإسلامية، ويسابق الزمن لتفكيك قوتها، وتغيير هويتها، وحرف مسارها، وإدخالها في خلافات بينية؛ لتقويض أي محاولة لنهضتها، وخفض مستويات تأثيرها في المنطقة، وأكثر من ذلك في الاستيلاء على ثرواتها ومقدراتها، واقتيادها إلى منزلقات بالغة الخطورة تصب في مصلحة الاحتلال ومشروعه الاستعماري؛ لذلك فإن الشعوب ترفض أي علاقة أو تقارب مع العدو الإسرائيلي وتخالف سياسات الأنظمة لكنها لا تملك تغيير هذه السياسات في ظل ما يفرض عليها من سياسات القمع والملاحقة وغيرها من الممارسات الوحشية التي تفرضها الأنظمة لإرهاب الشعوب ومصادرة حقها في التعبير عن الرأي بأي صورة.
فالتطبيع العربي الإسرائيلي هو أبرز "المتغيرات الإستراتيجية" والخطيرة التي ضربت المنطقة واخترقت الساحات العربية والإسلامية، وهي الفرصة الذهبية التي حققت للاحتلال الإسرائيلي مكاسب غير مسبوقة من ناحية؛ 1- التوسع وزيادة حجم النفوذ، 2- كسب معارك من خلال وسائل ناعمة أقل خطورة وتكلفة، 3- وبناء تحالفات جديدة عززت أمنه، 4- عزل القضية الفلسطينية أكثر وخفض مستويات الدعم لها، 5- والتأثير في وعي الأمة وتمرير روايته الكاذبة والمضللة، وغير ذلك من المكاسب المهمة التي لم يحلم الاحتلال بأن يحققها أو يصل إليها في وقت قياسي ودون جهد وعناء كبير، بعد أن كان يفرض إرادته ويسعى لتحقيق الأهداف عبر الهجمات والحروب الدموية.
وإذا ما تحدثنا حول (دافعية) بعض الأنظمة للتقارب مع الاحتلال وتطبيع العلاقات يجب ألا ننسى أنه ومن "الناحية التاريخية" فإن هناك "علاقة عضوية وطفيلية" بين نشوء الاستبداد العربي وقيام المشروع الصهيوني وذلك منذ عهد الاستعمار البريطاني في فلسطين، إذ استمرت هذه العلاقة وتوطدت مع تجذر حالة (الاستقواء والاستبداد) من الأنظمة العربية، لأن جزءًا كبيرًا من هذه الأنظمة القمعية التسلطية كانت دومًا تعيش في دائرة الخوف من الشعوب ويلاحقها شبح الاستبدال والتغيير، لذلك بحثت وما زالت تبحث دومًا عن حليف خارجي يعزز من سيطرتها ويخفض من مستوى المخاطر في محيطها، الأمر الذي جعل هذه الأنظمة تعيش تحت الوصاية وتقاد إلى مصالح استعمارية كبرى لها انعكاسات وآثار مدمرة، وعليه فإن انكسارها واستسلامها عرض ثرواتها للنهب، وأبعد من ذلك في جعل سياساتها تأتي في الطريق والوجهة المعاكسة لرغبة وإرادة الامة.
لذلك فإن حرية الشعوب العربية مثلت أحد (أهم الهواجس) لدى الاحتلال الإسرائيلي، لأن التعامل مع أنظمة حكم فردية مستبدة هو السبيل للسيطرة على مفاصل هذه الأمة وهي الطريق الأسهل لتطويعها والسيطرة عليها، وهذا ما يفسر القلق والإرباك الذي عايشه الاحتلال والذي بلغ مداه خلال الربيع العربي الذي أعطى مؤشرات بل مهددات خطرة على الاحتلال بأن هذه الأنظمة ستنهار تباعًا وتغيب عن المشهد، والمنطقة ستقدم إفرازات جديدة تلبي تطلعات الشعوب التي تكيل العداء للاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي سيخلق واقعًا أكثر خطورة وتعقيدًا، لهذا عمل الاحتلال مع حلفائه على حرف مسار الأحداث وأجهض أي محاولات لتغيير الوضع القائم، ولم يخفِ فرحته الغامرة حينما تعثر "الربيع العربي" وعادت أنظمة الاستبداد إلى بعض العواصم العربية، لكن هذه المرة بشكل أكثر تسلطًا وقمعية على نحو غير مسبوق، وهذا ما يكشف عن مدى الارتباط العضوي بين الاحتلال وهذه الأنظمة.
وإزاء هذه المعطيات فإنه من الضروري العمل على ما يأتي:
أولا- فضح المشاريع الصهيونية التي تستهدف العالم العربي والإسلامي والتي تسعى لزرع بذور الخلاف وتأجيج الصراعات وتفتيت وحدة الأمة كي يسهل السيطرة عليها والانقضاض على ثرواتها؛ وهذا ما يسعى له الاحتلال الإسرائيلي ليكون صاحب اليد العليا وليحلو له تنفيذ مخططاته التدميرية وينعم وحده بالأمن والاستقرار ويحقق الازدهار في منطقة تغوص في دوائر ممتدة من الصراعات.
ثانيا- تعبئة الشعوب بمكانة فلسطين الدينية والتاريخية والحضارية، وتأصيل حرمة أي تفريط بجانب من جوانب الحق العربي والإسلامي حرمة دينية وأخلاقية ومبدئية، حتى نفشل أي محاولات جديدة لخداع الشعوب ونضيق الخناق على المطبعين ونثور الشعوب على أي خطوة تطبيعية للتقارب مع العدو الإسرائيلي.
ثالثًا- نبذ كل من يتورط أو يتلطخ فكره بالتطبيع، ومقاطعته وتجريم فعله ودعوته للعودة عن هذا المسار، واعتباره خارجا عن كل القيم ما لم يعُد ويصحح مساره، فمن يطبع مع الاحتلال يجب أن يعلم أنه سيخسر كثيرا على كل الصعد وسيصبح معزولا ومحاربا بشتى الطرق.
رابعًا- إبراز جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة على مدار تاريخ إنشائه بما يعززُ القناعات بأن هذا الاحتلال قائم على أركان (العنصرية، والقتل، وسرقة الأرض، وانتهاك العرض، وبث الفتن) وأنه لا يمكن بحال التعايش معه.
خامسًا- تغليب لغة الحوار وخطاب الوحدة والمصالحة بين أبناء الأمة العربية والإسلامية؛ لأن هذا يغيظ الاحتلال وداعميه والمطبعين معه، وعدم الالتفات لكل الدعوات المشبوهة والمحاولات اليائسة الرامية إلى نبش الماضي والعبث بالجراحات لاستعادة خلافات الماضي التي كان الاحتلال سببًا في ظهورها أو تأجيجها.
سادسًا- على المستوى الفردي فإن مواجهة التطبيع يمكن أن تكون عبر وسائل عدة؛ من ضمنها التزام مقاطعة بضائع الشركات التابعة للاحتلال، وأيضا الداعمة له، والامتناع عن المشاركة في أي من الفعاليات الثقافية أو الفنية والإعلامية أو الرياضية، ومقاطعة اللقاءات التي تدعو إلى ما يسمى بالتسامح الديني للجمع بين المسلمين واليهود من دولة الاحتلال وقد شهدت الأعوام الماضية نماذج مشرفة لحالات عديدة.