في السنوات الأخيرة وصلنا إلى حالة خطيرة جدا جدا تستدعي الوقوف والتركيز عليها بانتباه شديد، ودراسة وتحليل أسبابها للقضاء عليها، وهي ظاهرة تقبل وجود الكيان الصهيوني أمرا طبيعيا وعاديا عند بعض الشعوب العربية، بل دعوة مواطنين عرب لزيادة العلاقات مع الكيان الصهيوني، طبعا هذه الظاهرة لها أسباب كثيرة من أهمها عمالة الكثير من الأنظمة العربية وتبعيتها المطلقة لأمريكا، إضافة لقيام بعض الأنظمة العربية بعقد اتفاقات أبراهام التطبيعية مع الكيان الصهيوني، لزيادة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني ومشاركة هذه الدول المطبعة بمحاولة محو القضية الفلسطينية وتصفيتها تصفية كاملة.
إضافة لهذه الأسباب هناك أسباب أخرى، منها الجانب الإعلامي، ففي السنوات الأخيرة دأبت الكثير من المحطات العربية الخليجية على استضافة المحللين السياسيين الصهاينة، ومنهم محللون متطرفون، إضافة لاستقبالهم المتكرر للناطق باسم جيش الاحتلال الصهيوني، وإظهار هؤلاء في القنوات العربية وكذبهم وتدليسهم في أثناء ظهورهم بالبرامج الحوارية أدى بغير شعور عند البعض من الشعب العربي إلى تقبل وجود الصهيوني وتقبل العيش معه وتقبل وجهة نظره.
أما السبب الأساسي للجوء البعض لتقبل وجود الكيان الصهيوني فهو الجانب الفكري أو المفكرون العرب، فالمفكر أو المثقف هو أساس أي أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، فإذا صلح هذا المفكر صلحت الأمة وإذا فسد فسدت الأمة والأمم التي نهضت وقامت بها ثورات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية قامت من خلال مفكرين، فالثورة الفرنسية مثلا قام بها ودعا إليها مفكري عصر التنوير كايمانويل سييس وفولتير وجان جاك روسو، والثورة البلشفية في روسيا قادها اثنان من كبار المفكرين تروتسكي ولينين، والثورة الإيرانية استفادت كثيرا من أفكار المفكر الكبير الدكتور علي شريعتي، وثورة الثامن من آذار في سوريا قامت على أساس أفكار مفكري حزب البعث كالأستاذ زكي الأرسوزي والدكتور وهيب الغانم.
فمما تقدم نرى أن المفكر إذا قام بدوره الصحيح يكون الأساس في نهضة بلاده ولكنه وللأسف الشديد في تاريخنا العربي سواء في الماضي أو في الحاضر كثيرا من المفكرين والمثقفين والشعراء من برروا في الماضي للاستعمار وأعطوه الشرعية وفي الحاضر هناك من برروا العلاقة مع الكيان الصهيوني ودعوا إليها .وقد اعتمد الاستعمار على هؤلاء في الماضي اعتمادا كبيرا وأنا هنا سأذكر حالة في الماضي مثالا، فعندما قام الفرنسيون باحتلال سوريا عام 1920 بعد معركة ميسلون ودخل بعدها الجنرال الفرنسي هنري غورو إلى دمشق قام وقتها الشاعر السوري البدوي الجبل بتاريخ 24-10-1920بنشر قصيدة في جريدة ألف باء الدمشقية بعنوان تحية للجنرال وفيها حيا البدوي الجبل في قصيدته الجنرال غورو ومن هذه الأبيات:
أسد أطل على الشآم فهللت وكذا تكون تحية الأسياد
ولبدوي الجبل أيضا قصيدته عواقب الجهل التي نشرتها مجلة العرفان اللبنانية في آب 1921 وفيها يتهجم البدوي الجبل على البطل الكبير الشيخ صالح العلي الذي قاد الثورة في الساحل السوري ضد فرنسا، ويمتدح في نفس القصيدة الضابط الفرنسي نيجر الذي كان يقود القوات الفرنسية ضد الشيخ البطل صالح العلي. ففي هذه الحالة المكانة الفكرية الكبيرة التي كان يحظى بها الشاعر البدوي الجبل قد استخدمتها فرنسا خير استخدام لتبرير وتشريع وجودها وإقناع الناس بها.
وهذا تماما ما تكرر وللأسف مع كثير من الشعراء والكتاب والمثقفين حول الكيان الصهيوني، ومنهم على سبيل المثال الشاعر اللبناني سعيد عقل فعندما قام الكيان الصهيوني باجتياح لبنان عام 1982 وقام بارتكاب مجازر بحق اللبنانيين والفلسطينيين خرج وقتها الشاعر المعروف سعيد عقل بكلام خياني صادم جدا وصرح تصريحات كثيرة أعلن من خلالها تأييده للغزو الصهيوني للبنان، ومن كلامه "أنني لو كنت أملك تنظيما حربيا سأقوم على الفور بالقتال مع الجيش الإسرائيلي لخروج كل فلسطيني من أرض لبنان". هكذا قال وقتها سعيد عقل، وكلام سعيد عقل وأفكاره كانت وراء دعم وإنشاء كثير من التنظيمات اللبنانية العميلة التي تعاملت مع الكيان الصهيوني، كميليشيا حراس الأرز العميلة بقيادة العميل اتيان صقر الذي صرح بأن سعيد عقل هو الأب الروحي للميليشيا التي يقودها.
وأيضا من مواقف المفكرين العرب المخزية التي استغلها الكيان الصهيوني خير استغلال وأثرت في كثير من الشعب العربي بحكم التأثر بهذا المفكر موقف الكاتب والشاعر والمفكر السوري الكبير ادونيس عندما قام في عام 1993 بحضور مؤتمر غرناطة بإسبانيا الذي دعا إليه اللوبي الصهيوني وقتها وألقى وقتها كلمة في هذا المؤتمر دعا فيها إلى السلام الثقافي بأي ثمن، وهذا ما دعا اتحاد الكتاب العرب لفصل أدونيس من عضويته عام 1995م.
دون أن ننسى مواقف بعض الكتاب والأدباء المصريين الكبار، كالأديب المصري العالمي نجيب محفوظ، والأديب المسرحي المصري الكبير توفيق الحكيم، اللذين أيدا معاهدة كامب ديفيد المشؤومة ودعوَا إلى إقامة علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني، ومؤخرا فاجأني موقف الروائي المصري علاء الأسواني بقبوله إجراء لقاء مع إحدى الإذاعات الصهيونية، وانتقاده اللاذع من خلال هذه الإذاعة للحقبة الناصرية وللرئيس جمال عبد الناصر، مع أن الحقبة الناصرية تعد من أكثر الفترات ازدهارا في تاريخ مصر الحديث.
مما تقدم نصل إلى نتيجة مهمة جدا هي أن بعض المفكرين والمثقفين العرب لعبوا دورا كبيرا بقصد أو بغير قصد في تبرير وجود الكيان الصهيوني وإعطائه الشرعية، وهذا بالضبط ما يريده الكيان الصهيوني، وهؤلاء المفكرون لهم تأثير كبير بكلامهم وبكتاباتهم بحكم أن لهم الكثير من المريدين الذين يتأثرون بهم تأثرا كبيرا، فكلمة المفكر أقوى بكثير من فوهات البنادق والمدافع، فهؤلاء المفكرون يقدمون خدمات جليلة بأفعالهم للكيان الصهيوني، على عكس بعض المفكرين والكتاب الآخرين الذين فضحوا الكيان الصهيوني وإجرامه، ودافعوا عن القضية الفلسطينية وعن المقاومة بالرغم من إقامتهم في الغرب، كالمفكر الفلسطيني الكبير البروفسور إدوارد سعيد رحمه الله، الذي دافع عن الشعب الفلسطيني في كل حياته الفكرية، وهزم مفكر الكيان الصهيوني الأول بيرنارد لويس في كثير من المناظرات التي دارت بينهما، هكذا يجب أن يكون المفكرون والصحفيون والكتاب والمثقفون العرب، كحالة الدكتور إدوارد سعيد، والأستاذ عبد الباري عطوان. ففي الواقع هناك حقيقة يجب علينا الاعتراف بها، وهي أن الكيان الصهيوني قد تفوق علينا من الناحية الفكرية، فمعظم المفكرين الصهاينة قد نذروا أنفسهم لخدمة الكيان الصهيوني وقضيتهم الصهيونية الضالة، في حين الكثير من مفكرينا كانوا معول هدم بدلا من أن يكونوا عامل بناء وإصلاح، فالمفكر والكاتب والمثقف والشاعر يجب أن يكون إلى جانب قضايا أمته داعما للمقاومة في وجه العدو الأساسي للعرب، وهو الكيان الصهيوني، ناصحا للحكام ومرشدا وموجها لهم.
فكما قلت في بداية المقال المفكر هو أساس الأمة وعمودها الفقري، إن صلح صلحت الأمة وازدهرت، وإن فسد فسدت الأمة وتراجعت واندثرت.