فلسطين أون لاين

لماذا تأخرنا؟ سؤال عربي عمره 130 عامًا!

...
الكاتب المصري وحيد عبد المجيد

لم يكفّ كُتّاب ومثقفون عرب عن الاهتمام بمسألة التقدم، ومقارنة أحوال بلادهم بغيرها، منذ آخر القرن التاسع عشر عندما نشر عبد الله النديم عام 1893 كتابه الذي صار مشهورًا «بِمَ تَقدم الأوروبيون... وتأخرنا؟» وعندما نُشر ذلك الكتاب، كان قد مضى أكثر من ثمانية عقود على المحاولة الأولى لوضع مصر على طريق التقدم وفق النمط الغربي، ونحو عقد على الإعاقة الأولى لهذه الطريق بواسطة الاحتلال البريطاني.

وعلى مدى نحو 130 عامًا، نُشرت عشرات الكتب، ومئات وربما آلاف الدراسات والمقالات، التي أعادت إنتاج السؤال نفسه في صيغ متنوعة، واختلف مؤلفوها في إجاباتهم، إذ حاول كلٌّ منهم أن يُفسّر تأخر العرب مقارنةً بالغرب أولًا، ثم بهم وبغيرهم بعد ذلك، انطلاقًا من خلفياته، وفي حدود معرفته.

وما زال هذا الخلاف على عوامل تأخر العرب أو عدم تقدمهم مستمرًا بين اتجاهين أساسيين: اتجاه يُحمّل الغرب المسؤولية عمّا آلت إليه أحوال العرب عمومًا، وعن تأخرهم خصوصًا، واتجاه يبحث عن عوامل هذا التأخر في الثقافة الغالبة في المجتمعات العربية، أو في طبيعة هذه المجتمعات، أو في نظم الحكم، أو في هذه كلها مجتمعة. وفي هذا الاتجاه الثاني نجد انقسامًا عميقًا بشأن نوع مسؤولية العرب عن تأخرهم، بين من يعزونه إلى ما يعتقدون أنه عدم تمسك بالدين، ومن يُفسّرونه بالانغماس الزائد في تفسيرات وتأويلات دينية.

غير أنّ النفاذ إلى عمق ظاهرة التأخر العربي يتطلب التفكير في الكيفية التي يحدث بها التقدم، انطلاقًا من فرضية أنّ العلم والعقل العلمي هما المُحدِّد الأول لقدرة هذا المجتمع أو ذاك على قطع خطوات إلى الأمام بشكل مطّرد. ويأخذنا التفكير بهذه الطريقة إلى النظريات المُفسّرة للتقدم العلمي، وتحديدًا إلى نظرية التراكم المعرفي، التي تُفيدنا بأنّ التقدم عملية تراكمية تتضمن مراحل يقود كلٌّ منها إلى ما يليها، ويُبنى في اللاحق منها على ما تحقّق في السابق، وهذا إذا توافر شرطان هما الاستمرار أو عدم الانقطاع، وتجنُّب الإغراء بتحقيق قفزات في المجهول.

وهذا ما حدث في الغرب، بدءًا من أوروبا، حيث حقّق التطور في عصر النهضة منذ القرن الخامس عشر ديناميكية أتاحت الانتقال إلى زمن التنوير، وخلق الإصلاح الديني بيئة ملائمة للانتقال نحو العلمنة، فصارت الأوضاع مُهيأة للتقدم باتجاه الديمقراطية، بالتوازي مع التحرك نحو الثورة الصناعية الأولى تأسيساً على التحول التدريجي من الإقطاع إلى الرأسمالية التجارية، والزراعية أيضًا، وصولًا إلى البرجوازية الصناعية. وعندئذ، ومع منتصف القرن التاسع عشر، بات التقدم الذي تحقق مرتكزًا على أرض ثابتة، لأنّ القوى الدافعة له تمكنت من ضمان استمراره، ومعالجة عثراتٍ واجهته، وقاومت في الوقت نفسه قفزات سبقت أوانها كما حدث عقب ظهور الاشتراكية في مطلع ذلك القرن. 

ولهذا تواصلت مراحل التقدم عبر توطيد أركان ما سبق تحقيقه، والبناء عليه للانتقال تدريجيًّا إلى ما يليه، فصارت الثورة الصناعية ثورات عدة حملت كل منها جديدًا نوعيًّا، وما زال.

لم يحدث مثل ذلك في العالم العربي، الذي بدأت إرهاصات تقدمٍ في بعض بلدانه في مطلع القرن التاسع عشر، عقب الاحتكاك المباشر مع الغرب، عندما تبين عمق الهوة بين عصرين مختلفين، وليس بين ثقافتين متباينتين فقط.

غير أنه ما كان للبداية المتأخرة أن تعوق المضيّ في طريق التقدم إلا لأنها افتقرت إلى الاستمرار حيناً وتعرضت لأخطار القفز على الواقع حيناً آخر. فقد حدث انقطاع متكرر في محاولات التقدم منذ البداية، وأخذت حركة المجتمعات العربية عندما خرجت من ركودها القروسطي طابعاً دائرياً وليس خطياً، فكلما مضت خطوة إلى الأمام ارتدّت ثانية إلى الوراء، وكلما بدا أن الطريق يمكن أن تُفتح إلى مرحلة تالية أكثر تطوراً، حدث انقطاعٌ فرض البقاء في المكان أو الارتداد عنه. وأُعيد إنتاج هذا الخط الدائري مرات في المجتمع الواحد، وحدث مثله في غيره، نظراً للتفاوت في فترات بداية محاولات التقدم من مجتمع إلى آخر.

وهذا فضلاً عن محاولات القفز على الواقع، أو حرق المراحل، لتحقيق طفرات كبيرة بغير أساسٍ يسندها، ومن دون استيعاب الدرس الأوروبي في هذا المجال خلال القرن التاسع عشر، خصوصاً في فرنسا حين أُحبطت كومونة باريس عقب الهزيمة أمام بروسيا في 1870.

وبخلاف ما حدث في الغرب، كان القفز على الواقع مُغرياً في أجواء حماسية شهدتها بلدان عربية عدة منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، وأسفرت عن العودة إلى الوراء ربما بمسافة أكبر من تلك التي كان مرغوباً في اجتيازها إلى الأمام. وهكذا افتقدت محاولات التقدم العربي التراكم عبر الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل طبيعي، فيما كان بعضها ضحية اندفاعات عشوائية لتحقيق قفزات في المجهول.

ولهذا تبدو نظرية التراكم الأكثر فائدة في مناقشة معضلة التأخر العربي، والسعي إلى جوابٍ عن سؤاله الذي مضى على طرحه في العلن للمرة الأولى نحو 130 عاماً، واستخلاص دروسٍ للحاضر والمستقبل، بدل الاستمرار في سجالات واشتباكات في شأن أثر العوامل الداخلية والخارجية في إعاقة تقدم العرب.

وحيد عبد المجيد

كاتب مصري

المصدر / فلسطين أون لاين