فلسطين أون لاين

أوصى بمقاومة الاستيطان والمستوطنين

تقرير علي حرب.. بدمه روى حب الأرض

...
الشهيد علي حرب
سلفيت-غزة/ يحيى اليعقوبي:

اتصال من أحد الرعاة، ينقل خبرًا بأنّ مستوطنين نصبوا خيمة على أرض عائلة "حرب" غرب قرية "اسكاكا" شرق محافظة سلفيت، استنفر المتصلُ أبناءها الذين ترعرعوا بين أحضان أشجارها، وكبروا على حب أرضهم وترابها، فجمعوا أنفسهم وذهبوا لتفقُّد الأرض، وعندما وصلوها اختفت قطعان المستوطنين هربًا من المكان.

لكن سرعان ما عاد المستوطنون، بحماية جنود جيش الاحتلال المدججين بالسلاح، وأثناء الجدال الدائر بين أفراد العائلة والجنود تسلل أحد المستوطنين المتطرفين وخرج من بين الجنود وطعن المهندس الشاب علي حرب في قلبه ثم عاد واختبأ خلف الجنود الذين بدؤوا بإطلاق النار لحماية المستوطن، بينما سقط علي على الأرض غارقًا في دمائه التي ظلت تنزف لنصف ساعة منع فيها جنود الاحتلال كل محاولات إسعافه حتى تمكنت العائلة انتزاعه.

بقي صوت أمه المثقل بالهموم والحزن حبيسًا داخل قلبها، فسكين المستوطن التي اخترقت قلب نجلها علي، وصلت إلى قلبها أيضًا، وغرزت جروح الفقد فيه، فلم تقوَ على الكلام لحظة، لكن شقيقتها وصال لافي (خالة الشهيد) وهي صاحبة الأرض التي نصب المستوطنون خيمتهم عليها نابت عنها في إكمال بقية التفاصيل لصحيفة "فلسطين"، فتقول: "حمله إخوته وأقاربه على أكتافهم ونزلوا به مشيًا من تلة الجبل الوعرة لمسافة تقارب كيلومترًا، حتى وصلوا سيارة الإسعاف، ولكن للأسف كان علي قد نزف كثيرًا من الدماء حتى استشهد".

"علي كجميع أفراد العائلة، يجري حب الأرض في شرايينه ودمائه، لذلك هبَّ سريعًا لطرد المستوطنين ما أن وصله الخبر، فهو يعلم ويدرك خطورة تقدم المستوطنين شيئًا فشيئا نحو الأرض" تقول خالته، في لحظة تمر صورته أمامها: "كثيرًا ما كنت أراه يمسك ورق الليمون ويشتم رائحتها ويقول وهو يمسكها: "لا أجد أطيب منها!"، وكانت أمنيته نيل الشهادة".

تخرج علي من تخصص الهندسة الإلكترونية عام 2018، لا يذكر والده حسن حرب أن نجله قد تغيب عن صلاة الجماعة وخاصةً الفجر مرةً واحدة، وكان يكرس وقته في قراءة كتب التاريخ الإسلامي والجغرافيا، وقدم عدة مرات للحصول على وظيفة في مؤسسات حكومية وخاصة وتطوع في شركة الاتصالات، لكن "كانت الجنة بتستناه؛ وما كانش قاتل حاله على الدنيا" أصوات المعزين كانت تقاطع حديثه والده مع صحيفة "فلسطين". 

حب متوارث

لم يترك علي ووالده وإخوته أرضهم فريسةً لغول استيطاني يجثم على مقربة منهم، فعلى بعد 400 متر تمتد مستوطنة (أرئيل) المقامة على نحو اثني كيلومتر من أراضي قريتهم، وهو يخشى أن تبتلع وتتمدد نحو أرضهم المليئة بأشجار الزيتون.

يربط والده على جرح قلبه الصبر قائلا: "ورثتُ الأرض عن والدي، وأورثت حبها لأبنائي، كنا نذهب في العطلة الأسبوعية لنقوم بتفقدها وزراعتها، وفي موسم الحصاد نتجمع في العائلة ونقيم أعراسًا تراثيةً في استقبال الموسم وقطف حبات الزيتون ومن ثم عصره وندرك خطورة مساعي المستوطنين للاستيلاء عليها".

الأب الذي يعمل صيدلانيًا، قدّم عروضًا لا حصر لها لمساعدة نجله المتعطل عن العمل، يستعرضُ جانبًا منها "عرضت عليه تعليمه القيادة أو شراء سيارة، زواجه، لكنه لم يكن يريد شيئًا منها، لم يتعلق بالدنيا سوى بالأرض والصلاة".

حرب الذي أرسل أبناءه وأبناء أخوته لطرد المستوطنين، لم يتوقع أن يعودوا بدون علي، أو أن يعودوا به محمولًا على الأكتاف، "ففي كل مرة يأتي المستوطنون، ونقوم بطردهم، لكن هذه المرة قاموا بغدر ابني"، معتبرًا ما جرى "جريمة نكراء يمارسها جيش الاحتلال، يجب مجابهتها بالوحدة وإعادة البوصلة نحو الاحتلال وعودة الصف الوطني". 

مساعد إنساني

"كل حياته لن تنسى، بره بي وبأمه، بوالدي رجل كبير في السن يزيد عمره على 94 عامًا، كان عندما ينادي ويطلب المساعدة، يذهب إليه علي مسرعًا، فمن النداء الأول كان يستجيب لجده، ويساعده في المشي، وتوصيله لدورة المياه، أو مساعدته على استبدال ملابسه، وإطعامه".. قالها وهو يذرف دموعه حزنًا على رحيل نجله.

بصوتٍ غاضب يعلق عمه أكرم لـ"فلسطين" على الجريمة: "المستوطن الذي طعن علي، جاء من مستوطنة أخرى، وهم حاقدون على أهالي القرية، ولو أبلغ شباب العائلة أهل البلد لهبَّ كل شبابها لطرد المستوطنين وجيش الاحتلال، لكنهم اعتقدوا أن الأمر بسيط ولم يدركوا أن غدرًا قد أعد لهم".

من اتجاهين يتمدد المستوطنون تجاه القرية، تبلغ الأراضي في منطقة الحدث غرب القرية نحو 200 مترٍ ولا تزال مستوطنة (أرئيل) بعيدة نوعًا ما عن الأراضي، ولكن في شرق القرية باتت المستوطنات على بعد أمتار قليلة عن بيوت الأهالي.

عاش علي طفولته في تلك الأرض، وطوال سنيّ عمره غرس حبًا لا جذور فيه في قلبه، مدافعًا عن أرضه بجسده الأعزل أمام تغول الاحتلال ومستوطنين لم يتأخر يومًا واحدًا في طردهم وإبعادهم عن أرضه، حتى ارتقى شهيدًا بين ترابٍ وحباتٍ رملٍ وتحت ظلال أشجار الزيتون التي أبت إلا وأن تحتضن روحه وتضمه في ترابها، وانتهت الحكاية التي كتبَ فصولها بالدم.