بداية لا يعني حديثي عن سجن أريحا أني أغضّ الطرف عن أي سجن أو مكان يعذب به فلسطيني فلسطينيًّا آخر، فكل تعذيب وامتهان لكرامة فلسطيني يفعلهما فلسطيني آخر اعتداء آثم، ويجب أن يدان بكل أشكال الإدانة، وإن السكوت عن هذا الأمر طامّة كبرى واختلال قيمي وهزيمة للروح وهوان ما بعده هوان، فقط مجرّد أن تتخيّل نفسك ولو لحظة واحدة أنّ ظروفًا معينة جعلتك سجينًا في هذا السجن؛ فما قولك حينئذ؟! وكم تتمنى من الناس أن يقفوا معك! ماذا لو ابنك أو أخ لك من أمك وأبيك؟!
من المفترض أن يكون الفلسطيني أبعد ما يكون عن الوقوع في هذه الكارثة، ذلك أنه ذاق الأمرين من الاحتلال وما زالت سياطه على ظهورنا ولم تذهب آثارها، من المفترض بالفلسطيني أن يكون الأرقى في العالم في احترام كرامة وحقوق الإنسان، لم ننسَ بعد ولم يمضِ زمن طويل على ممارسات الاحتلال العدوانية، لم ننسَ زنازينه وأقبية التحقيق التي كال لنا فيها كلّ صنوف العذاب (وما زال)، لم ننس الشبح والهزّ والضرب على أشد مناطق الجسد حساسية وألمًا، لم ننسَ الانقضاض على البيوت الآمنة بكل وحشيّة وتكسير محتوياتها وقلب سافلها عاليها وعاليها سافلها، واختطاف أبنائها بكل قسوة وعنف، لم ننسَ التنكيل المريع والقمع المتوحش لأسرانا في سجونهم (وما زال)، ولا أريد أن أتعب قلوب أعزائي القرّاء أكثر من هذا، فالفلسطيني منذ بدايات الاحتلال إلى يومنا هذا شاهد حيّ على كلّ ممارساته العدوانية على الشعب الفلسطيني بكلّ أشكالها المقيتة.
لماذا تنتقل طبائع الاستبداد من المستبدّ إلى الضحيّة فتتقمّص بدورها شخصية المستبدّ وتتحوّل من الضحيّة إلى الجلاد؟ رغم اعتقادي أن الجلاد والمجلود هما ضحية لهذا الاحتلال البغيض الذي لعب لعبته الكبرى في حرف البوصلة، وإنهاك الفلسطيني بالفلسطيني في حالة داخلية لا يحسدنا عليها أحد.
سجن أريحا مثال حي، وقد حدّثنا من قضى فيه سنوات مأساته، إذ يكفي مجرّد وجودك فيه عذابًا، لظروف الطقس فيه صيفًا ودرجة حرارته الجنونية، فضلًا عن التعذيب من ضرب وشبح وحشر في زنازين ضيقة لا تصلح لوجود بشر فيها، هناك شهود كثر مرّوا بهذا السجن، الوجبة الأولى فيه من العذاب أسبوع من الشبح والضرب دون أي سؤال أو تحقيق، هي مقدمة لرواية البؤساء ثم بعد ذلك تدخل تفاصيل الرواية.
لست في هذا المقال بهدف سكب الزيت على النار، وإنما هي محاولة متواضعة للمساهمة في معالجة الأمر، بداية لا بدّ من توضيح خطورة هذا الوضع الكارثيّ الذي آلت إليه هذه الانتهاكات الصارخة لكرامة الإنسان الفلسطيني، والأمر لا يقتصر على ما يتركه التعذيب على الطرف المعذَّب بفتح الذال (وهذا كارثيّ لا شك)، بل الكارثة أيضًا فيما يتركه التعذيب على شخصية المعذِّب بكسر الذال، أذكر أن قرار الاحتلال بمنع التعذيب الجسدي في زنازين الاحتلال سنة 1999 (باستثناء الحالات التي تسمّى قنبلة موقوتة) كان بسبب ما يتركه التعذيب من آثار نفسية على شخصية المحقق، تجعله لا يحسن التعامل مع زوجته وأبنائه.
من باب الحرص على الفلسطيني ظالمًا أو مظلومًا وإنقاذ ما يمكن إنقاذه لا بدّ أن نؤكّد أن هذا التعذيب ينتج كوارث نفسية واجتماعية لا حدود لها على حياة الظالم، فلا يمكن أن نتصوّر أنّ هذا الجلاد خالي الوفاض من الضمير أو الإحساس الوطني والإنساني والديني، قد لا يشعر في مرحلة من مراحل حياته بألم الضمير تحت وقع التبرير وغسل الدماغ الذي يحدث له وأن في ذلك تحقيقًا لمصلحة وطنية هو لا يدرك أبعادها، في حين من أمره بالتعذيب يدركها عنه، ولكن ما لديه من بقايا الضمير سيحدث زلزالًا نفسيًّا في مرحلة لاحقة وسيقض عليه مضجعه وينحّي بالنوم بعيدًا عن عينيه، وماذا عن أهله وذويه الذين يدركون طبيعة عمله كيف سينظرون إليه؟! أذكر أن قاضيًا حكم في يوم من الأيام حكمًا لاعتبارات سياسية ما بعيدًا عن الاعتبارات القانونية والقضائية، ثم أنه أراد أن يحجّ فجاء يطلب المسامحة ممن ظلمهم، فقالوا له: "لن نسامحك ولن نسامح من يسامحك"، لن يهنأ بالعيش يومًا من يمارس الظلم، وهذا التعذيب المقيت بأشكاله المريعة من شبح وضرب وسبّ وشتم، سيأتيه المشبوح في منامه وسيسمع أنّات المظلومين في أعماقه لتدقّها دقّا عنيفًا، وستأتي عليه أيام يتألم فيها أضعاف ما أحدثه من آلام في نفوس ضحاياه.
وماذا عن المظلومين ودعائهم ودعاء ذويهم، والله إنّي لأشفق من هول ما سيقع على أولئك الجلادين والظلمة من هذه الأدعية المعلوم عنها أنه ليس بين أصحابها وبين الله حجاب، خاصة أنهم يعلمون عواقب الظلم ومع ذلك يمارسونه، أذكر أنّي ذهبت في واسطة خير للمطالبة بإطلاق سراح أسرى سياسيين من السجون قبيل العيد، فما كان من المسئول إلا أن سرد لنا عن وقع الظلم أيام كان معتقلًا في سجون الاحتلال، وكيف كان يمرّ العيد عليهم بحالة عاطفية جيّاشة جعلتنا نستبشر خيرًا، يا للأسف مرّ عيد وعيدان وثلاثة ولم يفرج عنهم. وأذكر يومًا ذهبت مع شابّ يشكو آلام الشبح لوزير مسئول، وقال نحن نوافق على الاعتقال لكن ليكن دون شبح على الأقلّ، حينها قال الوزير: "عندما ينتهي الانقسام ستنتهي كل هذه الآلام"، وها قد طال الانقسام وبقي الشبح، لو كان أخوك هو المشبوح؛ فهل تطلب منه الانتظار إلى حين انتهاء الانقسام؟!
وإنا لنعلم أيضًا أن الغالبية العظمى من هؤلاء المعذبين هم أسرى محررون قضوا في السجون الإسرائيلية دهرًا؛ فهل يرون العذاب في سجون فلسطينية من جديد؟! ألم تكفهم تلك الآلام؟!
المسألة في غاية الخطورة، وخطيرة على الظالم قبل أن تكون خطيرة على المظلوم، لذلك لا بدّ من تداعي أولي النهى، وكلّ من له علاقة في الشأن الفلسطيني العام لوضع وثيقة وطنية تضع حدًّا لهذه الكارثة المأساوية التي تعمل عملها في الجسم الفلسطيني لتصل نهاية المطاف إلى نتائج مدمّرة للنسيج الفلسطيني ولا تحمد عقباها أبدًا، ثم تدفع بهذه الوثيقة ليوقّعها كلّ من يعنيه الشأن الفلسطيني ونسيجه الوطني ليشكّل بعدها هذا الحراك حاضنة شعبية ضاغطة ومؤثرة على كل من يمارس الظلم أو التعذيب في سجونه التي تسمّى فلسطينية.