لفت نظري قبل كتابة هذا المقال وفي توقيت واحد على قناة الجزيرة مباشر 1 و2 كلمتان لنهجين مختلفين تمامًا، الكلمة الأولى لأبي العبد هنية وهذه المرة في عمق رمز اللجوء الفلسطيني صيدا، لبنان.. وفي جماهير غفيرة ومنظمة خالية مما نشاهده من مناسبات واحتفالات لحركة فتح التي تتنازل شيئًا فشيئًا عن تاريخها ونهجها حتى وصولا ليس للاعتراف بإسرائيل بل أزيد من ذلك من إجراءات وآليات استهدفت أيضًا الحركة الوطنية الفلسطينية واستهدفت حركة فتح بذاتها حتى حولتها خادمة لتوجهات أجهزة أمنية مرتبطة، والكلمة الثانية من محافظات الشمال الفلسطيني في الضفة الغربية من قرية يطا وكلمة رئيس الوزراء محمد اشتية التي لم تنقل شيئًا سوى أسلوب بائس لشخص بائس يتحدث في مؤتمر الصمود والتحدي ولكن أبجديات هذه الكلمة التي ألقاها محمد اشتية لا تدل على صمود ولا على تحدٍّ، بل ركزت على مساعدات الحكومة الاقتصادية والراية ولم يتطرق لآليات إجرائية أو إستراتيجية تخص الشأن الفلسطيني والقضية الفلسطينية بعكس ما تناوله هنية في خطابه الطويل الذي خاطب فيه ليس الذات الفلسطينية بل خاطب الإقليم وخاطب المجتمع الدولي وحتى رسائل لبايدن نفسه في زيارته المستقبلية للمنطقة.
العنوان الرئيس لخطاب هنية "لن نعترف بإسرائيل" والعنوان الآخر "يرونه بعيدًا ونراه قريبًا" في ظل تراجع حماس عما أعلنته في ميثاقها عام 2017 بحل الدولتين والحل المرحلي معللًا هذا التراجع لمتغيرات إقليمية ودولية وعدم اعتراف (إسرائيل) بحل الدولتين في ظل استيطان متزايد في الضفة الغربية.
وأنا استمع لهنية حقيقة وبعيدًا عن التمثيل الحزبي والانتماء الحزبي والفصائلي ومتجردًا من كل هذه الترهات الفارغة كفلسطيني بحت أرى من خطاب هذا الرجل عمق الصدق والمحتوى، كما نبه إلى أنه لاجئ فلسطيني عاش عيشة المخيمات في مخيم الشاطئ على شاطئ بحر غزة، هو هذا الشعور الذي ائتلفت معه كلاجئ فلسطيني وفلسطيني عام يعشق حب الأرض والانتماء للتاريخ والجذور وللهوية، بالتأكيد أيضًا أن خطاب هنية أعادني للشعور الثوري والحرارة الوطنية والقومية في فترة الستينات والخمسينات والسبعينات من القرن الماضي، هي تلك الثقافة التي لم تتوقع يومًا بأن يعترف نخبة من الشعب الفلسطيني ب(إسرائيل) ويهادنها ويتفق معها في برامج مختلفة أمنية وغير أمنية، هي تلك الكارثة التي دمجتني مع خطاب هنية كفلسطيني بحت، فالفصائل زائلة فإن لم تحقق أهدافها وبرامجها فها هي في حكم المعدوم وحكم الإعدام عليها من الجماهير الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وهذا ما ركز عليه هنية في خطابه أيضًا، فالجماهير والشعب الفلسطيني ومخيمات اللجوء سواء في فلسطين أو لبنان أو المخيمات الأخرى تتوق لمثل تلك الخطابات التي تعشقها الجماهير التي تعيده وتركز بأن الجيل الثالث من النكبة لن ينسى فلسطين ومنضبط وملتزم بما يعشقه آباؤه وأجداده بل مرتبط بفلسطين وقدسيتها وتاريخها وملكيتها لفلسطين أرضًا وبحرًا وجوًّا.
كما قلت كان خطاب اشتية هزيلًا يدل على فشل وقلة حيلة وخطوط حمراء لا يتجاوزها في خطابه بالنسبة للاحتلال الذي يزوده بالمال وإن كان مالًا فلسطينيًّا وضرائب فلسطينية، بل تعتمد هذه السلطة على قيمة الاحتلال في بقائها وتسيير حياتها بعكس التحديات التي فرضها خطاب هنية بكلمته لن نعترف بإسرائيل إجرائيًّا وعمليًّا وليس قولًا وإن موعدنا لقريب في تحرير فلسطين والقدس حينما قال إن عمر بن الخطاب كرم الله وجهه قد دخل القدس وصلاح الدين قد حررها، ثم قال: مَن للقدس؟! قال نحن لها. نحن لها ورددت ذلك الجماهير الغفيرة نحن لها أيضًا، هذا هو الخطاب الذي يعشقه الفلسطينيون مهما كانت انتماءاتهم ومهما كانت الضغوط والإجراءات والتقييمات لفرض موقف عليهم نتيجة لقمة الخبز والحياة اليومية.
نظرت لهنية وهو متوشح علم فلسطين بأنه هو هذا الفلسطيني اللاجئ الوطني العمق والتحليل والانتماء ولا أنظر لهنية كرئيس لحركة حماس ما دام هو يقترب كثيرًا من الحلم الفلسطيني والتاريخ الفلسطيني والأرض الفلسطينية، ولا يهمني كثيرًا إن نجحت حماس في الحكم أم لا، ولكن يهمني فقط ماذا يفعل فصيل حماس في عملية التحدي والصراع على الوجود وبخطوته الأولى يمنع ويتحدى ولا يستطيع جندي إسرائيلي أن يتخطى مترًا من حدود غزة الجغرافية، هذا بداية النصر كما عبر عنه هنية بالتحدي وبصواريخ القسام التي طالت مطارات بنغوريون وطالت مطارات بديلة في جنوب فلسطين بالقرب من إيلات التي تبعد 250 كيلومترًا وأكبر مما يعتقده الإسرائيليون عندما طالت تلك الصواريخ مطار بنغوريون على بعد 80 كيلومترًا من غزة.
تناول هنية في خطابه مجموعة محاور تحدث فيها عن عمل المستطاع مع الجانب اللبناني لتحسين حياة اللاجئين ومشاريع تقوم بها حماس في المخيمات الفلسطينية وتحدث أيضًا عن علاقة حماس مع المحيط الإقليمي والدول العربية قائلًا إننا لا نتدخل في الشؤون العربية ولكننا ضد التطبيع، قائلًا أيضًا إن الفلسطينيين هم الذين يصنعون المتغير وستفشل مخططات بايدن في المنطقة وفي زيارته للمنطقة في تشكيل محاور على حساب الفلسطينيين كما أسقط شعبنا صفقة القرن وتحدث عن علاقات حماس الواسعة مع المحيط الإقليمي والدولي وطرح ثلاث نقاط بخصوص سياسة حماس وبرنامجها الذي لم يعترف (بإسرائيل) وأن المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين وموجهًا أكثر من رسالة للإسرائيليين التي عبر عنها هنية وكل متابع للشأن الإسرائيلي بأن إسرائيل تتفكك من الداخل ومن السهل تناول قضية التحرير، وقال لهم لا بقاء لكم على هذه الأرض فهي للفلسطينيين.
وأنا أسمع هذا الخطاب رجعت للماضي وللتاريخ فهو يتحدث باسم حركة وطنية فلسطينية وربما وبشكل غير مباشر عبر عن أدبيات حركة فتح الملتزمة والمنضبطة بخصوص القضية الفلسطينية فلا خلاف لي معه كفتحاوي حول المحاور التي طرحها حول الوحدة الوطنية وإعادة تفعيل وتنشيط منظمة التحرير كوعاء شامل موحد للشعب الفلسطيني ومن حق أي فلسطيني كما جاء في الميثاق الوطني أن ينتمي لهذه المؤسسات وكذلك كل الفصائل في برنامج موحد يستند لميثاق منظمة التحرير "قبل الحذف"، كما انتقد هنية سلوك السلطة ومحمود عباس في التعيينات الجديدة في منظمة التحرير دون الاستناد إلى اللوائح والنظام الداخلي للمنظمة وبعدم الرجوع للفصائل والقوى الوطنية الفلسطينية بأنه عمل يعوق هذا التجديد للمنظمة.
أخيرًا أحسنت يا أبا العبد في خطابك الوطني غير الحزبي وأعتقد أن هذا الاحتفال والمؤتمر في صيدا وبما حضره من جماهير غفيرة ومنظمة ومنضبطة وبتجديد القسم الموحد الذي خرج من حنجرة الموجودين بالقسم لتحرير فلسطين والمقاومة والكفاح المسلح هو هذا القسم الذي كان العمود الفقري لحركة فتح وأطرها ومؤسساتها وجناحها العسكري العاصفة، لا خلاف معكم لا خلاف معكم لا خلاف معكم، وامضوا قدمًا حينما يتنازل الآخرون عن موقعهم وعن مربعاتهم التي ساندها شعبنا إلى ان تنازلتم.