ما يحدث اليوم لا يذهب سدى إلا عند البسطاء، وقد ينسونه لأنهم مشغولون بالبحث عن رغيف الخبز، أما أجهزة الدولة وخاصة الأمنية فتسجل كل شاردة وواردة وتضعها في الأرشيف حتى يأتي يوم "العوزة".
ومما يدلل على صدق الحديث أنه بين الفينة والأخرى نقرأ عن إفراج استخبارات دولة ما عن معلومات، إما لأنها فقدت أهميتها، وإما لهدفٍ في نفس الزعيم.
قرأنا مؤخرًا أن الاستخبارات البريطانية رفعت السرية عن بعض الوثائق التي تتعلق بالقضية الفلسطينية في قضايا كثيرة، سأتناول بعضها:
1- تذكر الوثيقة أن أول عمل قامت به دولة الاحتلال بعد الاستيلاء على فلسطين 1948، هو مصادرة المكتبات الشخصية التي كانت في البيوت المهجورة.
وهذا يؤكد الحقد الصهيوني على مظاهر الثقافة والمعرفة حتى لا تبقى هذه المكتبات شاهدة على الوجود الفلسطيني؛ وليؤكد الصهاينة زورًا وبهتانًا للعالم أن الشعب الفلسطيني هو شعبٌ جاهلٌ ولا يستحق الحياة، وهذا ديدن الغزاة تجاه الشعوب الإسلامية، ولنا في التاريخ شواهد، فما فعله هولاكو ببغداد حيث عاصمة الخلافة العباسية الإسلامية، من قتلٍ للعلماء وإغراق للكتب في نهري دجلة والفرات، وإحراق بيت الحكمة، وما فعلته أمريكا في العراق عام 2003 يؤكد ذلك.
2- تذكر الوثيقة أن الحضارة التي كانت تعيشها المدن الفلسطينية قبل النكبة مُذهلة، فقد كان في فلسطين 28 مجلة أدبية، ودور سينما، ومكتبات عامة، ومسارح، وصحف، وإذاعة، وموانٍ، ومبانٍ بمعمار مذهل.
وهذا يؤكد أن الشعب الفلسطيني ليس كما صورتهم الرواية الصهيونية، وأظهرتهم للعالم بأنهم مجموعة رعاع متخلفين، بل هم أصحاب فن وأدب ومسرح وبناء معماري قادم من بطن الفن الإسلامي الرائع.
3- تشير الوثيقة إلى نجاح إضراب عام 1936 واقترابه من إفشال مخطط إقامة دولة إسرائيل، لولا تدخل أصدقائهم وعلى رأسهم الملك سعود، وإلى أن الهدنة كانت بمنزلة نفخ الروح للوجود "الإسرائيلي" وقد سعت أطراف عربية لتثبيتها وعلى رأسها حكومتا مصر والأردن.
وهذا يؤكد تجارب كثيرة عشناها، وربما أحدثها ما حدث في معركة سيف القدس وما سبقها من صولات وجولات مع الاحتلال حين كانت تميل الكفة لصالحة المقاومة الفلسطينية كانت تتدخل أطراف عربية وتطلب التهدئة كي تنقذ دولة الاحتلال من ورطتها، وما إن تضع الحرب أوزارها حتى يتنكر العرب لوعودهم، وهذا نهج مستمر، فكلما تألمت دولة الاحتلال من ضربات المقاومة أسرعت الحكومات العربية لإنقاذها، وكأنهم وإياها أخوة في الرضاعة.
4- تشير الوثيقة إلى أن القرى الفلسطينية التي فاقت 500 قرية، لم يهجّرها الصهاينة فقط، بل دمروها بالمعنى الحرفي للكلمة، لم يتركوا أثرًا فيها إلا ما نسوه مصادفة، وكانوا يقصدون بذلك أن يمر الوقت ويتم نسيان تلك القرى من التاريخ.
وهذا دليل على رغبة الاحتلال في تشويه وتدمير المعالم والشواهد الجغرافية الدالة على عروبة وإسلامية، والمؤكدة حقنا في بلادنا، وهذا نهج مستمر، وما حدث وما زال في قرى كثيرة مثل العراقيب التي تعرضت للهدم لـ197 مرة، والنقب وغيرها، شاهد على ذلك.
ختامًا، إن ما أظهرته الوثيقة البريطانية ليس جديدًا علينا، فقد رأينا بأم أعيننا أن الأنظمة العربية تعمل وفق فلسفة المحافظة على عروشهم ولو على حساب القضايا الإسلامية المركزية الكبرى، وهي وإن جاءت بجديد فقد أكدت المؤكد لدينا، وتُعَلِمنا بأن كلَ الشعاراتِ العربيةِ الرسميةِ التي سمعناها على مدار 100 عام كانت (ع أبو فشوش) ومثل إبرة البنج، وتدفعنا للعمل وفق المثل (ما حك جلدك مثل ظفرك)، فاعتبروا يا أولى الأوطان.