فلسطين أون لاين

تقرير "أهرامات" الصابون النابلسي التقليدي تواجه عواصف التآكل

...
الصابون النابلسي
نابلس-غزة/ مريم الشوبكي:

منذ 50 عامًا لا يزال داوود أبو سير يصنع الصابون النابلسي الذي تفوح منه رائحة زيت الزيتون دون أن يتخلى عن الطريقة التقليدية التي تعلمها على أيدي عمالقة هذه الصناعة في أزقة البلدة القديمة بنابلس.

تكافح مصبنة "الشمعة" في مدينة نابلس لتصمد في وجه تحديات عديدة تعصف بصناعة الصابون النابلسي الطبيعي، ويتمسك "أبو سير" بإحيائها وحمايتها من التآكل أمام عشرات الأصناف الكيمائية الزاحفة في الأسواق حتى ولو كان الثمن تراجع إنتاجه إلى أقل من النصف، وإغلاق الكثير من مصانعها داخل المدينة.

تجذبك مكعبات الصابون التي ترص بشكل هرمي فوق بعضها، تعتقد أنه شكل جمالي لجذب الزبائن إليه، ولكنه في الحقيقة يرص لتجفيفه قبل تعبئته وتغليفه تحضيرا لتسويقه.

طريقة الصناعة

قديما كان زيت الزيتون يطهى على نار حامية سواء على الحطب أو المواقد حتى يتبخر منه الماء ومعه جميع العناصر المفيدة للبشرة بعد ساعات من الغليان، لذا اتجه صانعو الصابون إلى الطريقة الباردة لصناعتها.

وصناعة الصابون تشتهر بها مدينة نابلس، ويرجح البعض أن عمرها أكثر من 100 عام، حيث كانت المساحات الخضراء في المدينة كبيرة، وعدد السكان قليل، وكان هناك فائض في زيت الزيتون، لذا اتجه النابلسيون نحو استخدامه في صناعة الصابون.

يشرح أبو سير لـ"فلسطين" أن الطريقة الباردة تعتمد على غلي زيت الزيتون لدرجة حرارة 65 مئوية، ومن ثم يترك لنحو ساعتين حتى يبرد، وبعد ذلك ثم يضاف إليه الصودا الكاوية (هيدروكسيد الصوديوم) ويخلط في خلاط كهربائي حتى "يُصبن" لمدة تتراوح بين 4 إلى 6 ساعات.

ومن ثم يقوم أبو سير بمساعدة أخيه وعامل آخر، بفرد الصابون الهلامي بمسطرين "مالج" على الأرض، وبمسطرة متعددة الارتفاعات لتحديد العلو المطلوب، ثم تترك لتجف نحو ساعتين في الشتاء، وساعات أطول في الصيف، "وذلك بسبب خواص المادة الزيتية التي تتجمد في الشتاء بشكل أسرع منه في الصيف".

ويبين أبو سير أنه بعد جفاف الصابون تمامًا يتم إزالة القشرة العلوية له بواسطة المِقطع "وهو سكين طويل مثبت على ذراع خشبية طولها 70 سم، حتى يصبح الصابون ناعمًا، ومن ثم تأتي مرحلة التشكيل الهندسي لقوالب الصابون بواسطة خيط يغمس في صبغة حمراء لوضع خطوط متوازية أفقية وعرضية بحجم نصف سم بين كل قالب وآخر.

وينتج عن هذه العملية مكعبات يعمل الصبية الصغار على ختمها باسم المصنع "الشمعة".

يتبع تلك المهمة عملية التقطيع اليدوي، والتي يقول أبو سير إنها تتم بسكين مربوط بعمود خشبي يتدلى منه حبل، حيث يحني ظهره ويضع رأس السكينة على الخطوط الحمراء بالطول والعرض، وبسرعة فائقة ينتهي من تقطيع 7000 إلى 100000 ألف قطعة خلال ساعة.

ويلفت إلى أن مكعبات الصابون تلك تترك على الأرض حتى تجف نسبيًا دون أن يفسد مظهرها بسبب التحريك والنقل المتكرر، وفي اليوم التالي تُبنى منها أهرامات وتترك لمدة شهريًا لتجف تمامًا وتصبح جاهزة للتغليف والتعبئة.

ويدخل أبو سير نوعًا من الحداثة على الصابون النابلسي التقليدي الذي يصنعه بناء على طلب زبائنه، كخلطة بالعسل، وطين البحر الميت، والميرمية، والنعناع، وعطر اللافندر، والياسمين، والليمون.

ويشير إلى أن ثمن قطعة الصابون الواحدة التي تزن 120 جرام، يتراوح ما بين شيقل إلى ثلاثة شواقل (أقل من دولار).

تراجع متلاحق

قديمًا كان أبو سير يصنع كل يومين 100 ألف قطعة صابون، في حين أن هذه الكمية تستغرق منه أربعة أشهر هذه الأيام بسبب تراجع الطلب على الصابون التقليدي، والاتجاه نحو الصابون المصنع المعطر رغم المشاكل الصحية التي يحدثها على الجلد من تهيج، واحمرار، وجفاف.

وينبه إلى أن صناعة الصابون النابلسي تراجع وتتجه إلى الانقراض، فمن 52 مصنع صابون كانت تضمها مدينة جبل النار في سبعينيات القرن الماضي بين جبليها الشهيرين عيبال وجرزيم، تبقى منها اليوم خمسة مصانع فقط، مع انخفاض طاقتها الإنتاجية إلى أقل من النصف.

ويرجع أبو سير إغلاق مصانع الصابون في المدينة أبوابها، بسبب توقف التصدير، والضرائب الباهظة التي تفرض على المبيعات، واستيراد المواد الخام، وتصدير الصابون، وغزة الصابون المستورد الأسواق.

ولدى سؤاله هل ورثت هذه الصناعة لأبنائك، يجيب: "رغم كل الصعوبات التي نواجهها إلا أنني ما أزال أعمل بها مع أخي، ويساعدني أبنائي في العطل الصيفية داخل المصنع، ولكني لم أعلمهم أصولها لأنها لم تعد صناعة تدر دخلًا ماديًا يفتح بيوتًا، ولا تُقوم مسؤوليات".

ويعد الصابون النابلسي أحد أبرز وأهم المنتجات التي اشتهرت بها مدينة نابلس شمال الضفة الغربية منذ نحو 1500 سنة. فبعدما كان الصابون النابلسي في كل بيت فلسطيني، أصبح يصارع الحداثة والرقي من جهة، ومنافسة المنتجات المستوردة الرخيصة من جهة أخرى.

ولا يعرف على وجه التحديد من هو مبتكر هذه الصناعة، وهل وجدت في نابلس أم نقلت إليها من مدينة أخرى؛ ولكن الثابت أن هذه الصناعة وجدت لها في نابلس البيئة والظروف المناسبة التي ساعدت على تمركزها في هذه المدينة أكثر من غيرها، ولعل من أهم الأسباب التي ساعدت على ذلك وفرة زيت الزيتون في منطقة نابلس ومحيطها؛ فهو المادة الأساسية في صناعة الصابون.