فلسطين أون لاين

الأسير علاء البازيان والأربعون سنة

من كان ذا حظ عظيم فإنه يحظى بأن يرافق علاء البازيان في رحلته الفكرية العميقة والسياسية الفسيحة والاجتماعية الإنسانية الجميلة زمن فورة عسقلانية، ستجد نفسك وقد حلّق بك عاليًا وقد طفت ميادين عديدة وهو يأخذ بيد قلبك وعقلك بكل سلاسة وروعة لتعود بالنزهة والفائدة والعلم الوفير، سيتوقّف أحيانا ويسألك عن فلان هل هو في الساحة؟ فتمعن النظر وترجعه مرتين وثلاثة لتقول له أنه غير موجود ولكنه يقول لك انظر ثانية إنه موجود، لقد التقط طيفه بحاسته السابعة بينما فاتك أن تراه ببصرك الثاقب. 

إذا كان الناس يعيشون ليلا واحدا في اليوم فالضرير يعيش ليلين، وإذا كان الأسير البصير يعيش ظلمة السجن والسجّان فالأسير الضرير يعيش ظلمات بعضها فوق بعض، هل لنا أن نتخيّل أو نستوعب كيف مرّت الأربعين سنة على علاء البازيان وهو يمدّ بصيرته ليرسم معالم السجن وحياته المريرة بكلّ مفرداته القاسية، ما أعظم هذه الإرادة التي تسكن هذه الشخصية الفذّة.

كيف رسم الزنزانة وحدّ حدودها في مخيلته، هل طابقت الصورة التي رسمها حقيقة الأمر أم كانت أكثر قتامة وأشدّ ضراوة؟ هذه مساحة السجن الضيقة التي حدّدت حركته وثبّتت أركانه وقزّمت خطواته، كيف قطع زمن السجن الطويل بخطوات قصيرة جدا عرضها وطولها طول زنزانة كئيبة تلقي بظلالها السوداء على نفسيته الأبيّة الحرّة المرهفة الإحساس.

 وإذا علمنا أن أسيرنا الضرير لم يولد ضريرًا وإنما كان ذلك عندما انفجرت بين يديه عبوة ناسفة في عملية فدائية كان فيها علاء فارسها الاوّل فإن لنا أن نتصوّر قدراته على رسم الحيّز المكاني بناء على ما في مخزونه القديم من صور. 

وبهذا فإنه يحاول رسم زنزانته بصورة مطابقة للواقع ثم الانطلاق إلى كلّ مفردات هذا الواقع برسم يحاول فيه الاقتراب من صورته طبق الأصل، فالبرش تحدّد أنامله معالمه، زوايا حديدية تجعل من فضاء نومه محدودا وترسل له رسائل فظة قاسية، حتى في مرقدك ومنامك ليس لك منا إلا الحديد والقسوة. ثم لا يجد في هذه المساحة الضيقة إلا تلك الأبراش الحديدية ذات الطابقين لتسع كمًّا بشريًّا يفوق طاقة المكان وتجد في إحدى الزوايا دورة المياه التي لا تفي باحتياجات عدد ضاقت عليهم هذه الزنزانة، هنا في هذه المسافة بين الأبراش الحديدية المكتظة ودورة المياه تمارس الحياة بكلّ أنشطتها المتعدّدة: فهي غرفة طعام وصلاة ونادي ثقافة وحركة ورياضة وصالون ضيافة ومكان لممارسة كل الهوايات أدناها النقاش وأعلاها فنون نسج قبة الصخرة الحريرية واللوحات الفنيّة.

وله من الحركة خطوات عندما يفتح باب الزنزانة مرّتين في النهار ليقوده أحد الرفاق للفورة (ساحة السجن) فتتحرّك قدماه في ذات الظلمات التي لا تنفكّ عنه لا ليلا ولا نهارا، لا داخل زنزانته ولا في فورة متنزهه، يحاول السباحة في ميدان هذه الظلمات في ميادين الفكر والسياسة هاربًا من عالم ظلماته، ويحاول بما ينسج من علاقات طيبة أن يفتح مساحات من نور يكسر حدّة الظلمات المحيطة به من كلّ جانب، الحياة المعنوية رفيقته في درب الظلمات والتي تشكّل عماد حبسته الطويلة والتي تبدو أن لا نهاية لها إلا بأمل يرى وميضه نهاية النفق.

هي المسافة ما بين الفورة والبرش التي تشكّل مدى حركته ويريد السجان أن يحشره فيها ويسدّ عليه الأفق وليجعل منه قزما لا قيمة له ولا معنى لحياته، ولكن علاء يجيد فتح آفاق واسعة إيمانا وعلما وأملا يمنحه لنفسه ولغيره من الاسرى، ليحيل السجن الى معقل حرية ومصنعا للرجال، فيزرع الفكرة ويوسّع مدارك العقل ويطوّر الخبرة ويجدّد الروح ، كلّ من يلتقي بعلاء يسمو ويعلو وترتقي جوانب شخصيته وتتملّكه روحا عالية وعنفوانا لا يلين أبدا مهما تكالبت عليه دواهي السجن. 

لقد نجح علاء ومن معه من أفذاذ الحركة الاسيرة في تجاوز كلّ الظلمات التي أراد لهم السجان أن يغرقوا فيها، وإذا كان هذا النجاح يحسب لكل من تجاوزه فإنه يحسب لعلاء مرتين لأنه يواجه ظلام ليلين بينما غيره يواجه ظلام ليل واحد. 

هذا غيض بسيط من فيض هذه الشخصية الحرة المثقفة الموسوعة ذات القدرة على المنح والعطاء والبناء، بقي أن نقول أنه ليس من المعقول أن تترك هذه الشخصيات العظيمة في السجون لتصل الأربعين سنة، بل هذه جريمة بحقنا جميعا نحن الذين نوصف بالأحرار وكلّ الذين يوصفون بالسيادة والقيادة، ماذا فعلنا وماذا نحن فاعلون؟ وماذا ننتظر؟ هل ننتظر لهم النصف قرن في السجون أم نقف وقفة صدق لنضع حدا لهذه الأرقام الفلكية في سجون هذا الاحتلال البغيض؟؟