وأخيرًا اكتشف محمود عباس أن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا يحتمل، ولا يمكن السكوت عنه، وهذا اكتشاف مهم وخطير، ويشير إلى دلالتين:
الأولى: محاولة من محمود عباس للالتفاف على الأوضاع المتفجرة في الضفة الغربية، واستغلالها، وركوب موجتها، وعدم السماح بانفلات الأوضاع الأمنية بعيداً عن سيطرته، بما في ذلك المحاولة لتجديد مشواره التفاوضي مع أمريكا و(إسرائيل).
الثاني: يحاول محمود عباس أن يخرج من المشهد الفلسطيني على هيئة بطل قومي، خاض غمار معركة التفاوض، وحين وصل إلى الحائط الأصم، قرر الاستقالة، وترك القيادة لمن اختارهم هو بنفسه، وفصلهم على طريقته.
واستبعد في مقالي هذا أن تكون المناورة السياسية هي الهدف من تلويح محمود عباس باتخاذ قرارات صعبة، واستبعد أن يكون الهدف هو الضغط على أمريكا وإسرائيل لإحياء المسيرة التفاوضية، فعباس يعرف أكثر من غيره، أن أمريكا و(إسرائيل) تعرفان واقع الحياة على أرض الضفة الغربية أكثر مما يعرف هو، وأنهما تجمعان خيوط العمل السياسي في الأراضي المحتلة على الحواجز الإسرائيلية، حيث تصرف بطاقة VIP.
ضمن هذا التشخيص الدقيق الذي يقدمه محمود عباس عن الحالة المأسوية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، من حق شعبنا أن يطرح السؤال التالي على محمود عباس:
لماذا وصلت القضية الفلسطينية إلى هذه الحالة؟ من الذي قاد السياسة الفلسطينية على مدار عشرين سنة، وأوصل الأوضاع الفلسطينية إلى هذه المصيبة التي لا تحتمل، وإلى هذا الوضع الذي لا يمكن السكوت عنه؟
ويعرف القاصي والداني أن الاحتلال الإسرائيلي يجثم على أرض فلسطين منذ عشرات السنين، ويعرف القاصي والداني أن الاستيطان الصهيوني يتواصل منذ عشرات السنين، وأن العدو الإسرائيلي يجفف الموارد، ويحاصر الإرادة، ويهدم البيوت، ويفرق الصف، ويغتال الكرامة، ويقتحم المدن، ويعتقل الألوف، ويقوم بتصفية الفلسطيني على الهوية، فلماذا تم اكتشاف كل ذلك في هذه الأيام؟
وهل كان الاحتلال الإسرائيلي محتملاً وبريئاً كل تلك السنوات، وصار اليوم لا يحتمل؟
الشعب الفلسطيني لم يعد مغفلاً، ولن تنطلي عليه كل ألاعيب الساسة، ولم يعد يشتري الشعارات، فقد شبع من حصى الإنجازات التي تغلي على نار التفاوض، وبات يفتش عن الفعل الميداني القادر على قلب المعادلة، وتغيير هذا الواقع الذي لا يحتمل حقاً.
ضم هذا المشهد الالتفافي على واقع الغضب والثورة التي سكنت مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، تأتي تصريحات الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، الذي قال: إن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بفتح قنصليتها في القدس، ليضاف هذا التصريح الأمريكي إلى المهزلة، والتحايل السياسي، فحين تعجز أمريكا عن فتح قنصليتها في القدس، وهي التي اعترفت بها موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، فذلك يعني أنها أعجز عن فتح باب غرفة ضيق للمفاوضات العبثية، دون رغبة (إسرائيل).
ملحوظة: بعد سنة واحدة من استبداد قيس بن سعيد، نجح التونسيون في تشكيل جبهة الخلاص الوطني.
وبعد 20 سنة من استبداد محمود عباس، وتفرده بالقرار، وتقديسه للتنسيق والتعاون الأمني، لم ينجح الفلسطينيون في تشكيل جبهة الخلاص الوطني!