لم يخفَ على أحد المشهد المؤلم لمسيرة الأعلام التي نظمها الاحتلال ومستوطنوه في القدس والأقصى واللد، وصورها وهي تجوب شوارع الأقصى وباحاته والمقدسات بشكل يستفز الحجر لا القلب أو البندقية فقط، كان المشهد مريبا، محبطا بامتياز، بحجم الإحباط الذي تعيشه القضية الفلسطينية والأنظمة العربية والإسلامية.
خطوات المستوطنين المستفزة وهم يسيرون في قلب عاصمة فلسطين، وجهوزية الاحتلال وهو في أقصى حالة الاستنفار والتأهب غير المسبوق في تاريخ هذا الكيان لتأمين المقتحمين، ولو كلف ذلك حربا ضروسا مع أي جبهة من الجبهات في سبيل إنجاح هذه الفعالية الذي اعتاد إقامتها منذ ١٩٦٧م.
الاحتلال جهز نفسه جيدا بمناورات عربات النار الذي جعل ذروتها تتزامن مع تلك المسيرة، لكن فصول المشهد كما أراد وخطط لم تكتمل، أنظاره كانت نحو جبهة غزة ومحاولة جرها للمواجهة، تلك الجبهة التي مرّغت أنفَه في التُّراب إبان معركة سيف القدس في مايو 2021.
عمل الاحتلال من خلال سلوكه على الأرض على جر المقاومة في قطاع غزة إلى مواجهة جديدة لعلها تنقذه من كابوس لا زال يلاحقه، اسمه سيف القدس.
اللافت في مسيرة الأعلام هذا العام مستوى الإجرام المرتفع لدى المستوطنين وهم يتلفظون بشعارات عدائية ضد العرب والمسلمين، حتى الصحفية شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة التي تم اغتيالها في صورة بشعة، لم تسلم من كلماتهم البذيئة، وهم يهتفون "قتلنا شيرين".
عربدة المستوطنين هذه كشفت للعالم مدى جرم هذا العدو وبطشه وبشاعته، وما تعيشه القدس من واقع مؤلم، كما أظهرت قوة هذا العدو وحجم مخططاته في الأقصى والسلوك الهمجي الذي يسير فيه هو ومستوطنوه.
ربما نجح الاحتلال بعد هذه التكلفة الباهظة إلى حد ما في الخروج بصورة المهيمن على الأقصى وهذه حقيقة منذ 30 عاماً، كما نجح في تحييد جبهة غزة عن الرد على هذه المسيرة حتى الآن ربما.
لكن من يعي السياسة يعلم أن المقاومة في قطاع غزة تعمل وفق تقديراتها للموقف، ولا تنساق أو تنجر خلف العاطفة أو ما يخطط له الاحتلال.
المقاومة فوتت الرد لاعتبارات تعيها جدا أكثر ممن يراقب من الخارج، أجهزة الاحتلال كانت في أهبة الاستعداد للمواجهة، يريد من خلالها استعادت قوة الردع، لكن المقاومة ضيعت عليه الفرصة، وهي تسير وفق خطة متكاملة وممتدة، ولديها معلوماتها وتقديراتها، وإن كان التقدير عندها غير ذلك، لكان القرار مختلف لأن المشاهد كانت كفيلة بأن تجعلها تمطر مغتصبات الاحتلال بحمم صواريخها، وتحويل تل أبيب إلى كتلة من اللهب.
لكن رغم هذه المشاهد والصورة الذي أخذها الاحتلال لمسيرة الأعلام، فثمة فشل كبير وإخفاقات بالجملة، لا يمكن أن يتجاهلها، أولها صمت المقاومة في غزة رغم محاولة استفزازها، وجرها للرد، والسؤال الذي يلوح في الأفق، بماذا تفكر غزة الآن وما المفاجأة المنتظرة؟
إضافة إلى الحدث الأهم والأبرز؛ وهو ما وثقه مركز معلومات فلسطين "معطى" عن مؤشرات تصاعد أعمال المقاومة بالضفة بعد مسيرة الأعلام، حيث رصد (235) عملًا مقاومًا، أدت إلى إصابة (22) إسرائيليًّا بجراح مختلفة، إضافة إلى عدم قدرة الاحتلال على حماية بعض المستوطنين في أثناء سير مسيرة الأعلام من لكمات الشبان المتحمسين، إضافة إلى إخفاقه الذريع في منع رفع الأعلام الفلسطينية في باحات الأقصى.
أغلبية المحللين يجمعون على أن ما حصل يوم 29-5 -2022 لم يحصل منذ عام 1967 لأن المستوطنين المتطرفين مارسوا طقوسهم بكل حرية، وهذا أمر لم يحصل من قبل".
لكن المؤكد الذي لا لبث فيه أن المقاومة الفلسطينية بجبهاتها لن تمرر هذه الجريمة، والرد حتميٌّ، لكن كيف؟ ومتى؟ وأين؟ هذه تساؤلات سوف تجيب عنها المقاومة في الوقت والزمان الذي تراه مناسباً.