كيف لنا أن نتخيّل هذا الرقم المهول؟ كيف استطاع أن يتجاوز كل هذه الأيام الشاقّة؟ ودون أي مدعّمات كما كان في إضرابات مماثلة؟ أي إرادة هذه التي تقود صاحبها في هذا الطريق الوعر والمحفوف بالمخاطر، التي تجعله يقف على حافة الموت في كل لحظة من لحظات هذه الأيام العصيبة.
هذا إن دلّ فإنما يدلّ على طبيعة هذه الشخصية الفذّة، وبعيدا عن اجتراح المعجزات وكرامات الأولياء فإن ما يحدث خارج عن حدود القدرات العادية لإنسان يملك إرادة قوية، إن ما يحدث هو أبعد من هذا بلا شك، أيّ إيمان وقر في قلب هذا الرجل؟ وأي التحام لإرادته بهذا الإيمان الفاعل؟ وأي ثقافة تسكن جنبات هذا الرجل؟ وما هي طبيعة هذه الروح التي تمتلك القدرة على مواجهة دولة الاحتلال بكل ما تملك من مساحات هائلة في المكر والكيد والقوة الماديّة وفنون الحروب النفسية؟ لا شكّ أن من يدخل هذه المواجهة ليس شخصية عادية بل هو شخصية في غاية الفرادة والتميّز.
عندنا في عالم الإنسان العادي ندخل صيام رمضان فنجد منا من يفقد توازنه بعد الامتناع عن الطعام عدة ساعات، كيف بمن يواصل صيام الليل بعد النهار ثم يحافظ على توازنه النفسيّ ويحافظ على قوة إرادته دون أن تتراجع قيد أنملة، وهنا لا نتحدث عن بضعة أيام بل نتحدّث عن ثلاثة أشهر متتالية لم يستطع أي سهم من سهام أعدائه أن يخترق حصونه ويوهن عزيمته.
من الصعوبة بمكان أن نتحدّث عن معركة بهذا الشكل الفريد دون أن نخوض التجربة، لقد خضت التجربة لغاية واحد وثلاثين يوما ووقفت على أسرار كثيرة سقفها هذه الأيام، أما هذا السقف العالي الذي بلغ التسعين يوما فأنّى لي الوقوف على أسراره. تشفّ الروح ويرق القلب ليصبح مرهفا بأحاسيس ومشاعر تتحرّر من ثقلة الجسد، تتحوّل الآلام إلى شلالات تجتاح كل خلايا الجسد وتضرب بقوةٍ أعماق المضرب، يطير النوم من عالمه ولا يرتفع بمعنوياته إلا إيمانه وصدقه مع ربه وقضيته.
هذا نموذج فلسطيني يُصدّر للعالم وينجح في تصدير قضيته بأبهى صورها وأقواها، هو ينجح بهذه الطريقة الفريدة في عرض القضية التي يضرب من أجلها، الاعتقال الإداري الذي يشكل فضيحة قانونية واخلاقية لهذا المحتل الذي أصبحت صورته ذميمة في العالم، فيأتي هذا الإضراب ليعلّق القضية على حائطه ويعلي راية خفّاقة في سماء الحق وفضاء الحرية.
خليل عواودة ورائد ريان الآن يخوضان معركة شرسة بالنيابة عنا جميعا، لأن الاعتقال الإداري يستهدف الكل الفلسطيني، فيأتي هذا الجهد العظيم ليضرب هذه السياسة الاحتلالية في مقتل، صحيح أن المعركة شرسة وقاسية إلا أنّ نتائجها ستكون عظيمة بإذن الله، أدناها تعرية الاحتلال أخلاقيا وأعلاها انتصار المضربين ودقُّ مسمار كبير في نعش الاعتقال الإداري.