فلسطين أون لاين

ورطة الاحتلال في القدس

ظنّ الاحتلال يوما أن القدس لقمة سائغة، يسهل ابتلاعها وترويض أهلها وتنفيذ كلّ ما يريد من سياسات احتلالية أرادها عندما أكمل احتلال القدس عام 67، وكانت ذروة أهدافه السوداء أن يصنع في المسجد الأقصى ما يحلو له بحيث يسير بخطوات مدروسة ومنتظمة تفضي إلى أن يصبح حال الأقصى كما هو حال شقيقه المسجد الإبراهيمي في الخليل.

وكانت المفاجأة الكبرى بأن أهل القدس وبما ظهر منهم من تجليات فريدة تثبت بأن دماءهم وأرواحهم معجونة بالمسجد الأقصى وأنهم جزء لا يتجزأ من المكونات الأساسية للقدس انتماء وطنيا عميقا صادقا، وأنهم أبعد من هذا مستعدون للتضحية والمواجهة والاشتباك الدائم بقواعد اشتباك وقادرون على تجديدها ومفاجأة الاحتلال بوجودهم القويّ والحضور الدائم بقوة وعنفوان لا يغيب أبدا. 

وكان أيضا لهم ما لم يحتسبوا من ردة فعل فلسطينيي فلسطين المحتلّة عام 48 حيث كان المساس في القدس والمسجد الأقصى هو بمكانة ضرب لعصب مركزي حساس، اعتقدوا أن احتلال القدس كاحتلال أي مدينة ولم يحسبوا حسابا أن القدس أمر مختلف وأنه ضرب لكلّ المشاعر المقدّسة التي تمثلها القدس في قلوب الناس، وكذلك كان الأمر لفلسطينيي الضفة وغزة وكل عربي ومسلم أينما كان في كلّ أرجاء المعمورة. فلم يمرّ الأمر عليهم كما كان حالهم عند احتلال القدس الغربية، الأمر مختلف، فهنا القداسة التي تسير في ركاب المسجد الأقصى وترخي بظلالها على الفلسطينيين بشكل خاص لا يمكن أن تمرّر السياسة الاستعلائية المتغطرسة في القدس.  

لقد كان احتلالهم للقدس الشرقية خطأ إسترتيجيًّا وظنّوا أن التطهير العرقي الذي تم للقدس الغربية سيجد طريقه عام 67 في القدس الشرقية، لم تجرِ الرياح بما تشتهيه سفنهم فبقي الخطر الديموغرافي قائما، وظلّت الثقافة الرافضة للاحتلال هي سيدة الموقف، ووجد ممانعة قويّة ومواجهة لكلّ سياساته العدوانية وكثيرا ما يجد مكره وقد تحطّم على صخرة القدس. 

ولم يعد للاحتلال من مظاهر السيادة إلا أن يثبتها من خلال مسيرة أعلام سنوية أو محاولة بين الحين والآخر لثلّة من المجانين المتطرفين وإشغال مهازلهم (ما يسمّى محاكم) لأداء طقوس دينية متعفنة في المسجد الأقصى، يستحضرونها من كتبهم القديمة، ولا ننسى بالطبع الامتداد الاستيطاني الذي يحاول أن يفرض وقائع جديدة يخططون لها، ولا نقلّل من شان هذا أبدا بل هو في غاية الخطورة. 

وللقدس هذا الامتداد القويّ الذي يلتحم مع أهلها بكلّ ما يملك من جهد وقوة وإصرار لا حدود له، لم تقف الأسوار والإجراءات العنيفة التي تحول بين القدس وأهلها القاطنين في الضفة الغربية، بل وجدنا كيف يصل الناس هناك وكيف يتجاوزون جدرانهم وكيف ينصرون القدس.

وللقدس امتدادها عبر المقاومة في غزة وقد أظهرت معركة سيف القدس كيف تكون النصرة وكيف تدخل المعادلة لتثبت للإسرائيلي المرّة تلو الأخرى أنه ليس متفرّدا في القدس وأنه لا يستطيع أبدا أن يفعل بها ما يشاء. وكان لهذا الامتداد عامل نوعي حاسم في المعادلة، ولم يتوقّعه الاحتلال يوم احتل القدس ولم يكن له بحسبان أبدا.

وكان لمجموع هذه العوامل أن تحوّل نصر الاحتلال باحتلاله للقدس الشرقية إلى ورطة لا مناص من ارتفاع الفاتورة وارتفاع كلفة احتلالها، ولم تعد مسألة فرض السيادة نزهة أو سهلة المراس بل تزداد صعوبة وإرهاقا للاحتلال يوما بعد يوم؛ ما يثبت أن احتلالهم للقدس كان وما زال ورطة ووحلا غرق فيه الاحتلال، وأن دورنا أن نزيد من أعبائه وأن ترتفع التكلفة يوما بعد يوم ليصل نهاية المطاف وأن استمراره باحتلال القدس عبئ ثقيل عليه ومن الأفضل والأجدى له أن يدع القدس لأهلها.