لم تكن المقاومة الفلسطينية ضد المشروع الصهيوني حديثة العهد، فحضورها محفور في ذاكرة التاريخ منذ بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين بداية القرن الماضي، وبتزايد موجات الهجرة تصاعدت أعمال المقاومة، وتنوعت أشكالها وتبلورت في عمل سياسي ومظاهرات وثورات عارمة كان للخداع البريطاني والسذاجة العربية دور في الحيلولة دون حصد ثمراتها بالاستقلال حتى جاءت نكبة مايو 1948 كي تدخل فلسطين حقبة احتلالية جديدة، تحمل نسختها المستحدثة دينًا مختلفًا عن دينِ سابقه، ولغةً يتحدث بها لسانٌ عبريٌ مُبين لغطرسته واستعلائه القادمين من سجيته العاشقة لإبقائنا في غائلة لا تنفك ولا تنقضي.
الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين حاضر الذكر منذ 74 سنة، وحاضر معه ودون توقف المقاومة الفلسطينية بشتى أشكالها، لكن ذراعها المسلح لم يكن يومًا بهذه القوة والعنفوان، وهذه الجرأة والعلو على الاحتلال المعتاد منذ نكبتنا أن يقوم مقام الفاعل المرفوع بقتلنا وتهجيرنا، والمعتاد أن يُضاف إليه طيلة عقود الصراع نجاحه في وأد أي مكسب سياسي نسعى لحصده من انتصاراتنا التي نسجلها كلما جمعتنا به ساحات النزال، واعتماده في خطابه إلينا على فعل الأمر المستند إلى اطمئنانه المطلق لحالة جزمه بسكون أُمتنا، وتسليم أنظمتنا العربية بخرافة أنه لا يُقهر، صدَّق الاحتلال تلك الخرافة فأطلق العنان لغطرسته وعنجهيته وجعلها أصلًا في تعامله مع الشعب الفلسطيني، استبدت به شهوة التنكر لأي حق لشعبنا على هذه الأرض وجعلته يُمعن في استهداف وجودنا، ولم يكن حاضرًا في حساباته أن تنجب فلسطين مقاومة راشدة قوية صاحبة رؤية سياسية ذات سقوف غير قابلة للتآكل، وهي مسلحة بإرادة وطنية صلبة صُنعت في حواضن عقدية لا ترى على موائدها سوى وجبات التضحية، والثبات، والعناد، مقاومة متحركة وفق استراتيجية متعددة الأبعاد لا تغفل استخلاص الدروس من تجاربنا النضالية السابقة باعتبارها وحدة قياس مساعدة على معرفة نتيجة أي خطوة، والأثمان المطلوب دفعها لبلوغها، مقاومة أحسنت استثمار قطاع غزة في جعله حاضنة قوية لذراعها العسكري، يُستدل اليوم بمعركة سيف القدس في تأكيد قدرته على ردع الاحتلال، وفي نجاعته في الضغط عليه وإجباره على تفادي الوقوع فيما يستفز المقاومة ويدخله في مواجهة معها، وكلنا احتفظ في ذاكرته بمشهد ملاحقة عناصر شرطة الاحتلال للمستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى ومنعهم من رفع العلم الإسرائيلي داخله، في تأكيد واضح على أن رفع المقاومة سوطها وصوتها هو من يُلجم الاحتلال، لم تكن المقاومة بقوتها وعنادها يومًا شحيحةً في فضائلها، فقد أخلت من قبل الساحة الدولية من اعتبار الاعتراف بشروط الرباعية، ونزع سلاح المقاومة شرطًا لتخفيف الحصار عن غزة، كما أنهت تماما الحديث عن اشتراط عودة المراقبين الأوروبيين إلى معبر رفح، ولم يعد حاضرًا اليوم لدى حكومة الاحتلال الحديث عن دخول الأموال القطرية شهريًا وبانتظام إلى أُسر وموظفي قطاع غزة، وهذا يؤكد أننا بالقوة ننعم بالحقوق، وبغيرها نستجدي الأراذل ولا نُعطاها، القوة التي جعلت الاحتلال يسكت على قتل أحد جنوده على حدود قطاع غزة بمسدس أحد أبناء غزة ولم يجرؤ على اغتياله كما جرت العادة طيلة عقود صراعنا معه، وكما اعتاد فعل ذلك في ساحات فلسطينية وعربية أخرى.
وفي ضوء ما استعرضناه من قوة أضحت عليها المقاومة في غزة اليوم، نجد أن القراءة الواقعية للمشهد تضعنا في صورة حقيقة أن المقاومة الفلسطينية عمومًا لم تستكمل بعد قائمة المطلوب امتلاكه لبدء مرحلة ادخلوا عليهم الباب، وعليها واجب مسارعة السير لسد الثغرات التي تقرها تلك الحقيقة، بالعمل على بناء القوة اللازمة لقرع طبول معركة التحرير التي تراكم المقاومة الفلسطينية في غزة قوتها لتصل إلى مرحلة الجهوزية لخوضها، غير أن جهوزية غزة لن تكون مكتملة إلا بقيام باقي الجبهات بواجبها في إشغال العدو بالاشتباك معه لتشتيت قوته وإضعافه، فاشتعال الضفة يعني اقتطاع الاحتلال جزءا من قوته لمواجهة هذا الاشتعال الذي كلما كان كبيرًا كان الاقتطاع كبيرا، وكذلك الحال بالنسبة لاشتعال القدس التي تحولت إلى صاعق مفجر للطاقات الثورية مع كل عدوان على المسجد الأقصى وعلى أحيائها، والاشتعال الثوري المتفوق أيضًا في قيمته الاستراتيجية هو اشتعال مدن الداخل المحتل التي أوجعت وأرعبت الاحتلال بمجرد أن خرجت عن صمتها خلال معركة سيف القدس، وهذا دفع معهد الأمن القومي الإسرائيلي وجنرالات في جيش الاحتلال إلى تصنيفهم كتهديد استراتيجي يتساوى في خطورته مع الخطر الإيراني.
اقتطاع المزيد من قوة العدو يحتاج إلى فتح جبهة رابعة ساحتها حدود دول الطوق، وجيشها ملايين أبناء شعبنا في الشتات وشعوب الأمة وأحرار العالم، وهذا يكون بالاحتشاد والزحف إلى فلسطين عبر الحدود، كلها اقتطاعات تضعف قوة العدو وهو يواجه مقاومة غزة المنشغلة تمامًا بمضاعفة قوة مقاومتنا، وابتكار كل ما يرفع منسوب قدرة شعبنا على شق طريق التحرير والعودة.