من مصاديق تفتت الأمة العربية تراجع قضية فلسطين في سلم اهتمامات أنظمتها، وهي القضية التي كانت قطب الرحى في المشروع الوحدوي العربي منذ الاحتلال قبل ما يقرب من سبعة عقود. هذا التراجع له اسبابه العديدة، ومن بينها هيمنة النفوذ الامريكي على المنطقة والتحالف الشرير ضد الشعوب العربية وتطلعاتها. هذا النفوذ دفع العديد من الدول العربية ليس للتخلي عن قضية فلسطين فحسب، بل بالسعي للتطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي. بل ان المصطلحات نفسها قد تبدلت، فلم يعد الكيان الاسرائيلي يوصف بــ «العدو»، ولم يعد التواصل معه جريمة يعاقب من يقوم بها. ويمكن القول ان الدبلوماسية العربية التي كانت فلسطين محور حركتها في السابق، تخلت تماما عن تلك القضية، واستبدلت بتعاون وثيق مع قوات الاحتلال خصوصا على الصعيد الامني. هذه الحقيقة اضعفت العرب امام الآخرين وادت الى تشتت صفوفهم.
في مطلع هذا الشهر قام رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، بزيارة (إسرائيل) في قطيعة تاريخية مع مواقف الهند المشرفة ازاء قضية فلسطين. ووقعت خلال الزيارة اتفاقات اقتصادية وسياسية عديدة ستفتح المجال امام توغل الكيان الاسرائيلي في شبه القارة الهندية وسيكون ذلك طريقا نحو القارة الآسيوية. وتعتبر الهند حليفا مع العرب في الموقف تجاه (إسرائيل) لأسباب تاريخية. من هذه الاسباب تزعم الهند مع مصر في الخمسينات حركة عدم الانحياز، وموقف تلك الحركة ضد الكيان الاسرائيلي. وتسجل صفحات التاريخ العلاقات الحميمة بين الرئيس الهندي جواهر لال نهرو مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس يوغسلافيا السابقة، جوزيف تيتو، والرئيس الاندونيسي سوكارنو، بالإضافة للعديد من الزعماء الأفارقة مثل احمد سيكوتوري. ويمكن القول ان مرحلة النضال الوطني من اجل التحرر في افريقيا وامريكا اللاتينية كانت من افضل فترات التلاحم بين القوى التقدمية من اجل تحرير فلسطين. هذا التلاحم هو الذي ادى لإقرار الامم المتحدة قانونا يعتبر ان «الصهيونية تساوي العنصرية». وتأتي زيارة الرئيس الهندي لتغلق صفحة من ذلك التاريخ. ومن المؤكد ان من اسباب ذلك تراجع الوضع العربي بشكل غير مسبوق، وهيمنة النفوذ الامريكي على المنطقة منذ حرب التحالف الانكلو امريكي في 1991 ضد القوات العراقية التي اجتاحت ذلك البلد الخليجي في آب/اغسطس 1990. وبسقوط الاتحاد السوفياتي في تلك المرحلة، الذي كان احد الداعمين الدوليين الاقوياء للقضايا العربية (برغم انه كان من اوائل المعترفين بالكيان الاسرائيلي في 1948) بلغ العصر الامريكي ذروته.
يومها كان النظام الرسمي العربي في طريق التراجع امام الاحتلال الاسرائيلي. وبعد استهداف غزة في 2008 انقسمت مواقف الدول العربية، فتأسس ما يسمى «محور الاعتدال العربي» الذي ضم كلا من السعودية والامارات والاردن ومصر، وهي الدول التي تسعى للتطبيع مع (إسرائيل). وقد سقط هذا المحور بعد سقوط حسني مبارك. ويسعى الرئيس الامريكي، دونالد ترامب، لإحيائه. وهكذا شجع الوضع العربي الآخرين على الاعتراف بالكيان الاسرائيلي والتواصل معه. ويمكن القول ان توسع النفوذ الاسرائيلي في آسيا واختراقها الهند ليس المصداق الوحيد لتراجع الدبلوماسية العربية، بل ان تمددها في أفريقيا يمثل تهديدا حقيقيا للقضية. فلم تعد العلاقات بين الكيان الاسرائيلي محصورة بدولة افريقية واحدة، بل ان تلك العلاقات توسعت وظهرت الى العلن. وسوف تعقد اول قمة افريقية اسرائيلية في شهر تشرين الأول/اكتوبر المقبل بمدينة لومي، عاصمة جمهورية توغو. هذا التوسع حظي بشيء من الاهتمام في بعض الاوساط العربية. فقد دعا البرلمان العربي الذي انعقد في القاهرة الاسبوع الماضي في بيانه الختامي لمخاطبة رؤساء برلمانات ومجالس الدول العربية الإفريقية للدول الإفريقية التي تنوى حضور القمة الإفريقية الإسرائيلية. وأشار الى ضرورة تذكير حكومات هذه الدول بأن حقوق الشعب الفلسطيني غير قابلة للتصرف وخاصة حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها شرق القدس وفق قرارات الشرعية الدولية وخاصة القرارين 242 و338 الصادرين عن مجلس الأمن. هذا الموقف لا ينسجم مع سياسات دول كالسعودية والامارات والبحرين ومصر التي تواصل ترتيب علاقاتها مع الكيان الاسرائيلي. فلمصر علاقات دبلوماسية قديمة منذ ان قام انور السادات بزيارة القدس في 1978 وأنهى حالة الحرب معها، وليس هناك ما يعكر هذه العلاقة سوى تمسك الشعب المصري بموقفه الرافض للتطبيع مع الاحتلال. واما السعودية فقد طورت علاقاتها مع الكيان الاسرائيلي في السنوات الاخيرة. ويعتبر الضابط المتقاعد، انور عشقي، احد مهندسي تلك العلاقة، حيث زار تل أبيب عدة مرات. وثمة سعي حثيث لتهيئة الشارع السعودي لتقبل تلك العلاقة. ويتوقع عشقي «أن تسير الأمور نحو الحل والجميع سيوافق»، وانه لمس تغيراً في موقف الشارع السعودي: «الآن لو نظرنا إلى التغريدات والتعليقات التي تظهر من أبناء المملكة، نجد أنهم يقولون إن (إسرائيل) لم يسجل منها عدوان واحد على المملكة». ولا شك ان التنافس بين السعودية وايران عامل مهم في تطوير علاقات الرياض مع تل أبيب. ويعتبر الامير تركي الفيصل، مدير جهاز الاستخبارات السعودي السابق، من مروجي العلاقات السعودية الاسرائيلية، وقد دخل في مناظرات عديدة مع مسؤولين اسرائيليين، وساهم في تطوير العلاقات الامنية والاستخباراتية بين الطرفين، خصوصا بعد الربيع العربي، وكذلك في ما يتعلق بإيران. اما البحرين فقد طورت علاقاتها مع الكيان الاسرائيلي بشكل ملحوظ. فبعد زيارة يوسي بيلين، وزير البيئة الاسرائيلي للمنامة في 2005 لحضور مؤتمر عن البيئة، أرسلت وزارة خارجية البحرين بعثة الى مطار بن غوريون (في تل ابيب) بذريعة "استلام" مواطنين بحرانيين زعمت انهم اعتقلوا لدى الاسرائيليين. سياسة التطبيع ساهمت في توفير الاجواء لتوسع النفوذ الاسرائيلي، ليس في الدوائر الداعمة للكيان الاسرائيلي تقليديا، بل في الاوساط التقدمية التي كانت داعمة للنضال الفلسطيني ومتضامنة مع المواقف العربية. وبتراجع هذه المواقف اصبح بعض هذه الاطراف اقل تشبثا بالموقف النضالي. وفي الوقت الذي تراجعت فيه سياسات الدول العربية ازاء فلسطين، سواء بالتطبيع مع الاسرائيليين، ام استهداف قوى المقاومة الفلسطينية، فان بعض اصدقاء العرب ما يزالون متحمسين في مواقفهم ضد الاحتلال. ففي 9 يوليو كشفت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيليّة النقاب عن أنّ السفير الاسرائيلي هكوهين، كان قد توصّل لاتفاقٍ مع مندوب دولةٍ عربيّةٍ في منظمة اليونيسكو بالتصويت ضدّ مشروع الاقتراح الذي تقدّم به الفلسطينيون للاعتراف بالخليل موقعًا أثريًا فلسطينيًا، بما في ذلك الحرم الإبراهيميّ،. وهذا ما حدث. فقد أعلنت اليونسكو البلدة القديمة في الخليل «منطقة محمية» بصفتها موقعًا «يتمتع بقيمة عالمية استثنائية»، وذلك في أعقاب تصويتٍ سريٍّ أثار جدلاً فلسطينيًا إسرائيليًا جديدًا في المنظمة الدولية. وقد وقفت ممثلة كوبا لدى اليونيسكو ، دولسي ماريا بورغر، موقفا مشرفا عندما دعت الحاضرين للوقوف حدادا على ارواح شهداء فلسطين، واعترضت على موقف السفير الاسرائيلي الذي دعا لعدم اقرار الاقتراح.
الامر المؤكد ان تداعي المواقف العربية ازاء قضية فلسطين خلق فراغا ملأته الدبلوماسية الاسرائيلية فاجتاحت مناطق النفوذ العربي في افريقيا وامريكا اللاتينية وآسيا، وقبل 25 عاما دشنت العلاقات الدبلوماسية بين الهند والكيان الاسرائيلي. وتواصل تراجع النظام السياسي العربي بضعف محور الرفض وانهيار «جبهة الصمود والتصدي». وبعد اتفاقات أوسلو توسع النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي ليضع الكيان الاسرائيلي كدولة مقبولة حتى لدى الأوساط التقدمية التي وضعت فلسطين على سلم أولوياتها. وثمة جانب مهم في هذا الجانب وهو ان التخلي عن فلسطين اصبح سياسة ثابتة لدى دول «محور الاعتدال العربي» التي تواصل سياسة التطبيع مع (اسرائيل) وتتصدى لمجموعات المقاومة، وتفتعل قضايا وهمية تشغل الامة بها.