دوّى صوتُ الشريط الأحمر لخبر عاجل أسفل شاشة قناة الجزيرة صبيحة أمس، ولأول مرة منذ ربع قرن لم يقل المذيع "معنا مراسلة الجزيرة في الأراضي الفلسطينية شيرين أبو عاقلة" هذا الصوت الذي لم يغب عن ذاكرة المشاهد الفلسطيني وهي تنقل الأحداث.
كانت "قريبة من الإنسان" منحازة لقضية شعبها العادلة، كبرت أجيالٌ فلسطينية على صوتها وصورتها التي لم تغب عن الشاشة وهم يعيشون تطورات الأحداث في الأراضي المحتلة.
أينما كانت هناك جرائم إسرائيلية تكن أبو عاقلة لنقل الأحداث، فكانت مرآة للقدس ورام الله وجنين ونابلس وطولكرم وغيرها من المدن الفلسطينية للعالم حينما لم تكن إلا عدستها الشاهد الوحيد على مجريات الأحداث.
لأول مرة لم تختم رسالتها الميدانية "شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، فلسطين"، فقد كانت هذه المرة هي الخبر العاجل، إذ ظهرت مسجية بدمائها من قلب الحدث، في إثر رصاصة قناص إسرائيلي غادِر اخترقت خوذتها الصحفية، لينعاها المذيع شهيدةً برصاص الاحتلال في أثناء تغطيتها اقتحام قواته جنين شمالي الضفة الغربية.
"لن أنسى أبدًا حجم الدمار ولا الشعور بأنّ الموت كان أحيانًا على مسافة قريبة، لم نكن نرى بيوتنا، كنا نحمل الكاميرات ونتنقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة، كنا نبيت في مستشفيات أو عند أناس لا نعرفهم، ورغم الخطر كنا نصرُّ على مواصلة العمل".
"كان ذلك عام 2002 عندما تعرضت الضفة لاجتياحٍ لم تعهده منذ احتلالها عام 1967، في اللحظات الصعبة تغلّبت على الخوف، فقد اخترت الصحافة لأكون قريبة من الإنسان، ليس سهلًا ربما أن أُغيّر الواقع، لكني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم، أنا شيرين أبو عاقلة"، كانت هذه من كلماتها، وعندما اختارت وصف أصعب الأحداث في مسيرتها اختارت رسالتها تلك عن جنين.
رسالة بالدم
"في الطريق إلى جنين".. هذا آخر ما كتبته أبو عاقلة على صفحتها في "فيسبوك" قبل يومين، وأرفقت صورة تظهر طريق سيرها، وكانت قطرات من المطر تتساقط على زجاج السيارة لحظة التقاطها الصورة، وعادت صبيحة أمس لنقل الأحداث من منطقة الجابريات بين مخيم جنين وقرية برقين غربي مدينة جنين، لنقل أحداث اقتحام جنود الاحتلال المدجَّجين بالسلاح للمنطقة.
ترتدي خوذة ودرعًا صحفيًّا زرقاوين، يتوسط الدرع مربع أبيض بكلمة (PRESS) يضمنان لها وفق القوانين الدولية العمل بحرية لنقل الحدث، لكن لم يحمياها من رصاصة قناص إسرائيلي، وبرفقتها صحفيون من بينهم مراسلة موقع "ألترا فلسطين" شذا حنايشة التي عايشت الجريمة.
تروي حنايشة تفاصيل الجريمة: "كانت وجوهنا لبناية وُجد بها قناصة إسرائيليون وفي منطقة مكشوفة ولم تكن هناك مواجهات ولا تبادل لإطلاق النار، وكانوا يشاهدوننا ونحن نرتدي الدروع والخوذ الصحفية، وقفنا بالمنطقة حتى يرانا الجنود، وكان خلفنا حائط، حتى أطلق القناص الرصاص عليها، وواصل الجنود إطلاق الرصاص لمنع أي محاولة إسعاف".
ووفق شهادات شهود عيان، فإنّ إطلاق النار كان من جهة جنود الاحتلال، مؤكدين أنّ جريمة الاغتيال والإعدام كانت متعمدة عن سبق إصرار وترصد.
وفي فيديو وثق الجريمة، ارتخى جسد "أبو عاقلة" على الأرض بعدما أصابتها الرصاصة، محتضنةً تراب جنين، وبقربها كانت الصحفية "حنايشة" تبكي وتصرخ تطلب الإسعاف، في مشهدٍ يعيد للأذهان مشهد جريمة إعدام الطفل محمد الدرة وهو في حضن والده.
وسبق تهاوي "أبو عاقلة" على الأرض إصابة زميلها المنتج في قناة الجزيرة علي السمودي برصاصة إسرائيلية، وقد نزلت من السيارة لتقول: "أصيب علي".
مسيرة حافلة
وولدت "أبو عاقلة" عام 1971 في مدينة القدس المحتلة، وتعود أصولها لعائلة مسيحية في مدينة بيت لحم، وقد أوصت بدفنها في القدس حال استُشهدت في أثناء قيامها بواجبها الصحفي الذي اعتبرته "رسالة وطنية".
درست في مدرسة راهبات الوردية في القدس، قبل أن تلتحق بجامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن لدراسة الهندسة المعمارية، لكن الصحافة كانت المهنة الأقرب إلى قلبها، فحصلت على بكالوريوس في الصحافة والإعلام من جامعة اليرموك في الأردن.
"أبو عاقلة" التي أطلق عليها كثيرون بعد استشهادها "أيقونة الصحافة" من الرعيل الأول من المراسلين الميدانيين لقناة الجزيرة، حيث التحقت بالقناة عام 1997، وقبل الالتحاق بها عملت في إذاعة فلسطين وقناة عمان الفضائية.
في حوار مع إحدى المجلات الدولية، أجابت "أبو عاقلة" عن سؤال المراسلة عن مخاطر المهنة قبل عقدين من الزمن قائلة: "ليست هنالك مخاطر يتعرض لها الصحفي الفلسطيني وحده، إنّ المخاطر تحاصر الفلسطينيين بلا استثناء، فلماذا نخاف؟".
وروت "أبو عاقلة" أنّ من أكثر اللحظات التي أثّرت فيها زيارتها سجن "عسقلان" والاطّلاع على أوضاع أسرى بعضهم قضى أزيَد من 20 عامًا خلف القضبان، حيث نقلت عبر الجزيرة معاناتهم لذويهم وللعالم.
القيادية الوطنية والأسيرة المحررة خالدة جرار، شاهدة على دور "أبو عاقلة" في إيصال صوت الأسرى، تقول: "عرفت شيرين منذ عام 1997، وكانت صوت الأسرى في الزنازين، غطّت كل مراحل النضال، وأجرت لقاءات عديدة عن الأسرى، وفي اعتقالي الأخير كانت أول من جاء لنقل جلسة المحاكمة بعد شهر من الاعتقال".