خارت قواه، وزاغ بصره، وتداعت أعضاء جسده للسهر والحمّى مع ما تبقى من إرادة وإيمان، نحن نتحدّث عن ثمانية وستين يوما والحرب ترمي بكلّ ثقلها وميدان الرماية هو هذا الصدر الذي لم يعد فيه متسع لأي قذيفة جديدة، رمى الأعداء كلّ أحقادهم وغلّف صلفه وغطرسته وسخائم روحه الشريرة في قذائف مميتة وألقى بها على هذه الروح التي تسكن هذا الجسد الذي يقترب من الموت يوما بعد يوم وببطء شديد، لم تعد طريق الآلام تحتمل رؤية المشهد، لم يعد في خليل إلا نبضات قلب مفعم بالإيمان وروح عالية تتجاوز قهر الجسد وعربدة السجان.
إنه هناك في خزان الحقد الصهيوني الأسود، يضرب بيديه الواهنتين جدران الخزان، الضمير العالمي فقد حاسة السمع وحتى نحن قد طال علينا الأمد فقست قلوبنا، نحن الجبهة الخارجية لهذه الملحمة البطولية قد باتت متصدّعة ومشتّتة ولا تركّز على شيء، ماذا تنتظر؟ هل نقول ليت كان طرقه للجدران أقوى وأعلى حتى يسمع قلوبا قد قست؟ أو أن على قلوبنا أن تستعيد حيويتها مع قضية الإنسان فيها وتتحرّك ولا تنتظر الاصطدام المريع مع المقولة الشهيرة: أكلت يوم أكل الثور الأبيض؟
ومن المعروف أيها السادة أن معركة خليل عواودة ورائد ريان وكل من يفتح هذا الملف الأسود هي معركة الجميع، خاصة كلّ من يعنيه الشأن العام الفلسطيني أو مخالفة هوى الاحتلال وإرادته فينا، كلّ من خرج عن رضا الاحتلال عنه وكل من أراد الخروج عن حالة القطيع الذي يساق للذبح متى أراد المحتلّ فإن هذه المعركة هي معركته.
نحن لا نتضامن أيها السادة مع مضرب عن الطعام في السجون الصهيونية بل نحن نقف مع أنفسنا في معركتنا مع المحتل في سياسة الاعتقال الإداري، لأنه يعتقلنا جميعا بهذه السياسة اللئيمة ويزجّ بنا في هذا الخزّان، كلّنا في خزّان الاعتقال الإداري ولكن هناك من يرضى به ويوفّر على الاحتلال مشقّة اعتقاله وتحمّل تبعات هذا الاعتقال فيعتقل نفسه بنفسه فيصبح معتقل الخوف من الاعتقال الإداري!
لقد أصبح الاعتقال الإداري الفزّاعة والغول الذي يرهب رجال النخبة التي تلعب دورا ما في الحياة السياسية أو الثقافية أو حتى الاجتماعية، فتعمل سياسة المحتل في الاعتقال الإداري لدفع هذه النخبة إلى الانتحار بمعنى تهميش دورها وتقزيمها من الحياة العامة لتنكفئ على نفسها وتدور حول الأشياء الصغيرة التي لا تؤثر في المحتلّ في شيء بل تنعشه وتؤدي إلى رضاه وراحة باله، إذ نجح بإبعاد نسبة عالية من هذه النخبة التي كانت في يوم من الأيام ذات أثر كبير في الحياة الفلسطينية العامة.
إذا فمعركة خليل هي معركتنا جميعا والفرق أنه تقدّم الصفوف واستعدّ ليشتبك بمفرده هذا الاشتباك المريع بكلّ ما أوتيت أمعاؤه الخاوية من قوة وبوضع إرادته على خط المواجهة الملتهبة، جبهة خليل المكوّنة من جسد هزيل وأمعاء خاوية وبقايا إرادة تصرّ على الانتصار تعترك مع جبهة عصابة تملك سجونا وحديدا ونارا وجيشا وفرقا متعددة للقهر والموت وإعلاما قويّا وترسانة من الحقد المتوارث والغطرسة التي لا حدود لها.
ليس لخليل الآن إلا الله وأن يتحرّك على الأقلّ كلّ من هو عرضة للاعتقال الإداري ومكان وجوده هو الخزان الوهمي الذي وضعنا أنفسنا فيه طواعية، ليس لخليل إلا أن نطرق جدران خزاننا لتتجاوب طرقاتنا الحرة القوية مع طرقاته السجينة الضعيفة، ولكلّ خزانه وطرقاته كي تحرّك شارعا فلسطينيا حيّا له ماضٍ عريق بالضغط على المحتلّ والوقوف مع أسراه، ولن يحرّك المحتلّ لوقف غطرسته وعربدته على أسرانا وخليل إلا بحركة الشارع القوية ذات الإرادة الحرّة والأبيّة التي عودتنا الوقوف مع أسراها الأبطال وعدم ترك ظهورهم مكشوفة للمحتلّ أبدا.