بنور بصيرته واستشعارات عزائمه نجح الشيخ علي حنون في تلمّس طريقه ووصل إلى المسجد الأقصى، رغم أنف عدوّه ورغم أنه ضرير وفاقد لبصره مئة بالمئة إلا أن بصيرته ونور عشقه كانت تضيء له الطريق مئة بالمئة، لم يعد قادرا على إدخال دائرة شعوره سوى المسجد الأقصى، سدّ عليه أفقه وملأ أركان قلبه روعة وضياء، هتف من أعماقه: لبيك يا أقصى، خرج صباحا من بيته في بلدة المزرعة القبلية قضاء رام الله بعد أن ثبّت البوصلة باتجاه المسجد الأقصى وهو يعلم حجم المخاطر، ولكن قرّر أنّ دون الأقصى تهون كلّ المخاطر، وهو يعلم تماما أن حرس عصابة بني صهيون لن يتركوه يمرّ أبدا، فكان لا بدّ من طريق ملتوية طويلة، ذهب مموّها غربا بينما يفترض أن يسافر جنوبا باتجاه المسجد المعشوق، لم يترك العنان لقلبه أن يسارع عبر أقرب الطرق بل سار خلف عقله على القاعدة المشاكسة للروائي عبد الرحمن منيف: أن أطول الطرق بين نقطتين الخط المستقيم، إذ إن هذه الطريق المستقيمة أشبعوها بالحواجز والمسارب والزرائب والمعاطات والفواحص الأمنية ذات القرون الاستشعارية العاتية والمؤهلة تأهيلا احترافيا في كيل الإهانة وتحقير الفلسطيني الساعي للصلاة.
أخيرا وبعد رحلة طويلة وعسيرة وصل الفؤاد منتهى العاشقين، وعانقت روحه ثرى المسجد وتعفّر جبينه ببلاطه الفلسطيني المعتّق، نوى الاعتكاف والرباط، وأن يتزوّد من هذا العبق الروحاني الجميل زادا عظيما يقيه شرّ نوائب الاحتلال وويلاته التي لا تعدّ ولا تحصى، تبدأ بالحواجز اللعينة وتنتهي بظلمات السجن وقهر السجّان، لم يأبه إلا إلى نداء قلبه وابتهالات روحه العاشقة، فهو في هذا الموسم من رمضان من كلّ سنة يهيم بهذا الوله العظيم ويقف على أعتاب قلبه أياما معدودات في هذه البقعة المقدّسة المباركة، إلا أن هناك من يتربّص لينقضّ على هذه المساحة الجميلة في حياة الفلسطيني.
لم يكفهم أنهم اقتلعوا هذا الفلسطيني من جذوره وشرّدوه في صقاع الأرض، دمّروا مئات القرى والمدن الفلسطينية وطهروها ممن كان ساكنها من غير بني جنسهم، مارسوا التطهير العرقي بوحشيّة منقطعة النظير، بل ساروا خلفه يطاردونه بكلّ أسلحتهم العاتية قتلا وتدميرا تارة وتارة خنقا وسجنا ومرمرة لئيمة لا يمارسها أحد هذه الأيام على ظهر البسيطة سواهم وحتى أنهم يرسلون مجانينهم ليمارسوا طقوس الجريمة والعربدة على ساحة هذا المسجد، ضاقت عليهم الأرض التي احتلوها بما رحبت وجاؤوا يزاحمون هذا الفلسطيني المكروب على هذه المساحة الضيقة، أيّ جنون هذا وأيّ سواد يعتمل في دواخل هذه الجبلّة المعجونة بالعلقم وبقايا بشرية وحقد من تواريخ بائدة قد تعفّنت وتحوّلت إلى أساطير يتبناها جنون في هذا العصر سمّى نفسه صهيون.
ويناجي الشيخ ربّه وبساطير الاحتلال وعربدة حثالة بشرية سيطرت عليها أساطيرهم المتعفنة تقطع عليه جماليات عبادته، جاء يشكو ربه كرب شعبه، يقدّم بين يدي دعواته الحرّة سير الشهداء وصبر وعذابات الأمهات، هذا الشيخ الضرير المعتكف المبتهل لربّه بصمت يشكّل خطرا على دولة الاحتلال، تطارده جحافل سوادهم فهم أضعف من احتمال هذا القلب الصغير وابتهالاته الطيبة لربه، لا يحتملون هذه الدرجة الأدنى في مقارعتهم، الشيخ يحشرهم بالزاوية ويكشف ستر عورتهم وقبيح نفوسهم، هم لا يحتملون هذا الطهر فيرفعون لواء قوم لوط: "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهّرون"، يأتون مدجّجين بأشرس الأسلحة القمعية، والمستهدف هذا القلب الجميل المتوجّه إلى ربه، وتنزل وحشيتهم دفعة واحدة لتنقضّ على هذا الخطر الداهم! بكلّ محتويات نفوسهم المريضة.
ينزل هذا الغول المفترس ساحة الأقصى هاتكًا قدسية المكان وجارحا كلّ المشاعر الإنسانية التي يجمع عليها الناس، فلدور العبادة حرمة ومكانة وللناس فيها عرف وأصالة، إلا أن هؤلاء لا أصالة لهم ولا عرفَ ولا حتى مشاعر إنسانية بحدّها الأدنى، لا يعرفون إلا لغة الجريمة والعدوان وضرب روح المكان والزمان والإنسان، لا يحتملون نظرات بصيرة لإنسان قد غادرت عيناه وجهه منذ عقود، يرتعبون منه، يشعرون بضربات نوره لعمق ظلامهم، هؤلاء لا يحتملون النور والضياء يحاصرونه بسوادهم، دون أي تردد أو طرفة بقايا ضمير إنسان، ينقضّون عليه، يشحطونه، يكبّلون يديه، يضربون ويسحلون ويلقون به على كومة بشرية معذّبة إلى حيث المعتقل وخلف القضبان والجدران.
أي دولة أو كيان أو أيّ وصف لعصابة لا تحتمل قلب ضرير جاء ليعبد ربّه زاهدا بالحياة ومنقطعا عن شهواتها وملذّاتها لا يريد سوى وجه ربّه، أيّ بشر هؤلاء لا يحتملون نظرات من لا بصر له، يخشون بصيرته ويرون فيه خطرا داهما، ليس معه عتاد أو سلاح بل من قلب عابد لا يقاومهم إلا بنور قلبه الطيب وضياء روحه الجميلة، هنا يخافون من المقاومة السلبية بل من أدنى درجاتها صلاة مصل أو اعتكاف معتكف عن شهواته وزينة الحياة.
هنا في المسجد الأقصى يرتعبون من جمهرة أناس قد قرّروا أن يرفعوا أكفّهم الى السماء.
هنا في المسجد الأقصى ولا مكان سواه يؤتى بالجيش المدجّج بالسلاح ليحاول منع أناس يركعون لله ولا يركعون لأحد سواه.
هنا في المسجد الأقصى يدلّل من لا حق له ويُقمع بوحشية منقطعة النظير من كلّ الحق له.
هنا في المسجد الأقصى قصة عشق وتضحية وفداء.
هنا الأقصى وأعتى الغزاة.
هنا في الأقصى ضرير جاء ليعبد ربّه فسيق بكل قسوة إلى جحيم المعتقلات.