أوحت إلى الحرب المسعورة التي تشنها (إسرائيل) على المدنيين والأطفال والأبرياء هذه الأيام مع انتهاك الأقصى الشريف جملة من الخواطر، وظلت تجول بفكري حقيقة تاريخية حول ردود الفعل العربية بين الأمس واليوم. وتذكرت أن الله سبحانه خلق الفصول الأربعة لتتعاقب من أجل رزق المخلوقات.
فالخريف يمهد الأرض للزرع ويسمح بالحرث ويبعث الريح فيه لقاحاً ويعقبه الشتاء فيهطل مطراً مدراراً ينعش الزرع ويخرج السنابل حبلى بالقمح والشعير والرز ثم يأتي الربيع ليكون الخير باعث أمل ورخاء ويعتني المزارع بأرضه سقياً وعلاجاً وتشذيباً إلى أن يحل الصيف وهو موسم الحصاد مرفوقًا بحمد الله وشكره على نعمائه... وتلك الأيام نداولها بين الناس ولا تختلف الحياة السياسية عن فصول العام، فيرى المؤمن فيها ما سماه سبحانه، التدافع لأن الله خلق الشعوب والقبائل وألهم نفوس الناس فجورها وتقواها وجعل دورات القرى، أي الحضارات مثل دورات الفصول، فانظر الى شعب فلسطين وهو يمر بمحنة أخرى بعد قنابل الصهاينة في غزة البطلة في شهر مايو الماضي، نجد اليوم حكومة ائتلاف اليمين العنصري تدوس الأقصى وتقتل لمجرد الشبهة، كما شهد العالم إلى درجة أن أستاذا جامعيا يهوديا (ديفيد أردوخاي جونيور) صرخ في قناة (أس بي سي) يوم السبت الماضي: "إنني أشعر بالخجل والعار بكوني أنتسب لإسرائيل التي تشبه اليوم في القدس عتاة النازية الهتلرية..!" عاش الشعب الفلسطيني خريف التهجير والشتات سنة 1947 بإرادة جائرة من دول أوروبية سبق أن ذبحت اليهود وأبادتهم وأراد حكامها بعد دحر النازية أن يكفّروا عن ذنوب أوروبا المسيحية، فأعطوا ما لا يملكون لمن لا يستحقون، ثم كان شتاء فلسطين قاسياً سنتي 1947 و1948 حين حل شعب دخيل مكان شعب أصيل.
وأتذكر شخصياً أنني حين انتُخبت رئيسًا لإحدى جلسات المؤتمر الدولي للاتحاد العالمي للبرلمانات في خريف 1982 (نفس خريف العدوان على بيروت وإخراج المناضلين الفلسطينيين منها نحو قبرص ثم نحو تونس)، وكان مؤتمرنا منعقداً بمقر البرلمان الإيطالي بروما وكانت الجلسة مخصصة للنظر في شؤون الشرق الأوسط، ألقيت خطاباً في كل الوفود المشاركة، ومنها الوفد الإسرائيلي ووفد منظمة التحرير بصفة ملاحظ ووفود بريطانيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية، وكنت من قبل خطابي توجهت إلى سكرتيرية المؤتمر وأخذت منها السير الذاتية للوفدين الإسرائيلي والفلسطيني (ومن بينهم المناضل خالد الحسن رحمة الله عليه)، وبدأت خطابي بالقول للبرلمانيين الحاضرين: "نريدكم أن تفهموا سر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولكي تفهموا هذا السر سأقول لكم أين ولد أعضاء الوفد الإسرائيلي؟ شالوم ولد في بروكلين وحاييم ولد في فيانا وديفد ولد في اليمن وإيزاك ولد في ميلانو... كما سأقول لكم أين ولد أعضاء الوفد الفلسطيني فخالد ولد في حيفا وكمال في الناصرة وناصر في القدس وجمال في نابلس... هذه حقيقة مأساة فلسطين: يهود قادمون من مدن العالم لا علاقة لهم بفلسطين وفلسطينيون من أرحام فلسطين ولدوا فيها ونشؤوا بين زيتونها وكرومها وهجروا منها، فهم اليوم في تونس وعمان وبيروت وباريس ونيويورك سيرجعون بعد المؤتمر إلى مهاجرهم، بينما اليهود الذين جاؤوا من أصقاع الأرض واغتصبوا فلسطين سيعودون بعد مؤتمرنا إلى فلسطين.
وأقسم لكم اليوم أيها القراء الأعزاء بعد مرور 40 عاما على هذا الخطاب الذي ألهمنيه الله سبحانه، لا أزال أتذكر باعتزاز كيف صفق لي وقوفاً جل أعضاء الوفد الأمريكي والألماني والفرنسي وكيف صرخ الإسرائيليون غضباً وتنديداً.
وأعتقد مع طول التجربة وكثرة التعايش مع الأحداث أن السبب بسيط، وهو أن المنطق العقلاني والرؤية التاريخية يستطيعان التأثير على رأي عام عالمي مغشوش، عوض استعمال لغة العواطف والحمية. لذلك آليت في كل مواقفي السياسية والتعبير عن أفكاري ألا أعتمد إلا على العقل والبصيرة مع اعتماد قوة الحجة التاريخية وبرهان الحق الساطع.
وهو ما سماه خالد مشعل (الانتصار الأخلاقي على جيش تساحال)، وهو أيضاً ما دعا رئيسة مفوضية حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة إلى التصريح بجرأة ومن على منبر الأمم المتحدة بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب في العدوان المستمر على المدنيين. لعل بعض قرائي الأفاضل يردون عليّ قائلين: وماذا يفيد فلسطين من هذه التصريحات ما دامت إسرائيل لا تقيم وزناً لا للأمم المتحدة ولا بالطبع لخطب العرب ولا تعتمد سوى على منطق القوة والتفوق منذ.... 80 عاماً؟ هذا صحيح ولكن المقاومة الفلسطينية، وخاصة التي اعتمدت على قوة العقيدة نجحت في قلب الموازين التقليدية القديمة والعقيمة أولا بالاعتبار والبصيرة وقراءة أخطاء الماضي في الحراك العسكري والدبلوماسي، وثانياً بتطوير تقنيات السلاح الرادع.
ويكفي أن نذكر فقط إيقاف شركات الطيران الأوروبية والآسيوية وحتى الأمريكية رحلاتها إلى مطارات إسرائيل لمدة أسابيع في مايو الماضي وما ينجر عن ذلك من خسائر اقتصادية ومالية وسياسية وأمنية لإسرائيل، وهو ما حرك لوبيات إسرائيلية لتعود بمراجعة مواقفها لا محبة في الفلسطينيين بل خوفاً على إسرائيل، قناعة من هذه اللوبيات بأن سياسات التهور ورفض حل الدولتين لو يتواصل ستصبح دولة إسرائيل عبئاً ثقيلاً على الإدارة الأمريكية الحاضنة لهذه الدولة والضامنة لبقائها وتفوقها. ولعلمكم فإن آلاف اليهود شاركوا في مدن أوروبية وأمريكية في مظاهرات التنديد بالقمع والقتل ومخططات الإبادة الممنهجة التي كما يقول هؤلاء اليهود تشكل وصمة عار على جبين الدين اليهودي وتشكل الخطر القادم على أمن الدولة العبرية وعلى السلام العالمي!