فلسطين أون لاين

من نطفتين محررتين أصرّ الأسير "عمار الزبن" على الحياة 

تقرير مهند وصلاح الدين.. "سفراء حرية" أوقدا شموع الفرح بين 27 مؤبدًا

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

ينظر إليها السجانون في ذهول، وهي تحمل وليدها الرضيع "مهند" بين ذراعيها بعد عشرين يومًا من ولادته وبعد عامين ونصف من المنع، تسألها المجندة وهي التي تعرف أن زوجها مكبل بسبعة وعشرين مؤبدًا: "مين هدا!؟".. نظرتْ إليها بنشوة المنتصر؛ متباهيةً به عندما تقابلت العينان "هذا ابني"، ثم دخلت لزيارة زوجها الأسير عمار الزبن، بينما تركت علامات الذهول والصدمة تكبل وجوه السجانين وهم يتهامسون.

ما إن وصلت صالة الزيارة، صدحت حناجر الأسرى بالتكبيرات مرحبين بالوافد الجديد، وضعته أمام زوجها بينما يفصل عازل زجاجي بينهما، وكشفت عن قدميه ويديه، وأمسكت سماعة الهاتف تشاركه الفرحة "هدا مهند ابنا"، هو الآخر لم يتمالك نفسه من الفرحة طالبًا إدخاله إليه لاحتضانه، رفض السجانون بداية، لكن بضغطٍ من الأسرى ومواصلة التكبير، انصاعوا لطلبه بإدخال مهند من إحدى نوافذ الصالة.

كانت تحفه الفرحة من كل اتجاه وهو يضم طفله إليه يشتم رائحته ويلتف حوله الأسرى، ينصتون لصوت الحياة الكامن في مهند، يقف أمام فرحة تنتابه لأول مرة، يسجل انتصارًا على سجانيه، فكانت اللبنة الأولى التي وضعها الزبن في إعمار بيته من خلال النطف "المحررة" وخاض بعده 71 أسيرًا التجربة ذاتها، نجحوا في إنجاب 102 طفل من "نطف محررة" تسللت من خلف القضبان.

هوت دموع الفرح من عينيه، وهو يضع طفله على النافذة ويسمع صوت زوجته من طرف سماعة الهاتف الأخرى "شوف ما أحلاه، كتير بيشبهك" تأخذه لأدق التفاصيل "شايف إديه زيك؛ وأصابعه نفسك".

بقيت تفاصيل الزيارة ملتصقة في ذاكرتها، تستمع صحيفة "فلسطين" لصوت زوجته وهي تروي ردة فعل زوجها الأسير: "كان في لهفة يستحيل نسيانها، لا أنسى كلماته لي: "احنا كنا أمواتًا في قبر بس أنتِ بمهند خلتينا بقبر أحياء.. خلتينا نعيش".

والأسير الزبن (45 عامًا) ذو المؤبدات الـ27 من رأس العين قضاء مدينة نابلس، أنهى عامه الرابع والعشرين تواليًا في سجون الاحتلال.

6 سنوات عجاف

بعد ست سنوات من المنع سمحت سلطات سجون الاحتلال لمهند بزيارة والده لأول مرة، يومها لم تغفو عيناه، وهو يلح على أمه بأسئلة تغمرها اللهفة "متى بده يجي الصبح؟" ثم يذهب ويعود يراقب الوقت "ماما، تأخرنا .. عنده طلع الباص"، وتوسد فراشه واضعًا ملابسه وحذائه بقربه، ما لبث أن غفى حتى قطع ستار نومه راكضًا نحو أمه "امتى بدنا نشوف بابا!؟" أسئلة فيها شوق، وحنين، وحرمان، وانتظار، فيها من الحياة والظلم معا لطفل لم يرَ والده منذ ست سنوات إلا بالصور وأو بسماع صوته من مكالمة هاتفية تمت بعيدة عن مراقبة السجانين.

توقفت حافلة الأسرى عند باب السجن، مهند يشد يد والدته يطلب منها إسراع خطواتها، تجثم كل خصال الفرح على ملامحه "يلا بدي أشوف بابا"، ثم أشارت عليه بمكان والده، فركض الطفل متخطيًا ممرًا طويلًا يجلس كل أسير أمام عائلته ويفصل بينهما عازل زجاجي يضع غشاوة لينغص اللقاء، يفرد يديه يريد احتضان والده، فاصطدم بالعازل، توقف منتظرًا والدته لتشرح له لماذا لا يسمع صوته والده، ولا يستطيع احتضانه.

عندما استذكرت تلك اللحظة، تهاوت دمعتها "طلب مهند الدخول عند والده، وبعد ضغط من الأسرى، سمح له، عانق والده وظل يشد في عناقه عليه عشر دقائق، يتحسس رأس والده، وخده لم أر فرحة تغمر أحد كالتي رأيتها تغمر قلب مهند وعمار معًا، رغم شخصيته الصلبة نزلت دموع عمار، وبقية الأسرى، فلا يمكنك أن تصدق أن هذا الطفل يرى والده لأول مرة، كأنَّه معه كل يوم، فسبحان من جعل الود والرحمة في قلوبنا".

ولادة الفكرة

في إحدى الزيارات طرح عليها الفكرة..

- فكرت نعمل زراعة، والله يعطينا أخ لبشائر وبيسان

- ما بدي يعيشوا زي خواتي بدون سند، لما سجنت واستشهد أخي

نظرت إليه في ذهول ولم تعطه إجابة بالقبول أو الرفض "أنا عارفة، إذا الشرع بحلل وكان مش حرام؛ بدي أفكر".

كان موقف الأهل والمجتمع المحيط بها أهم شيء عندها "أطلعت أهلي على الفكرة التي خطرت في ذهن عمار من الأسر وسبقه في تنفيذها الأسير عباس السيد لكنها لم تنجح فأحب تجربتها، كنت في بداية زواجي صغيرة في السن، فذهبت للطبيب وطلب مني بعدما أبدى استعداده لإجراء العملية بإشهار الأمر بين الناس لتقبل الفكرة وكان ذلك عام 2004".

ست سنوات غابت عن الطبيب، كانت تتحدث في كل مناسبات عائلتيهما عن الفكرة، وعندما تهيأ الجميع لاستقبال الأمر، عادت إليه عام 2011 يرافقها أكثر من أربعين فردًا من العائلة وليس اثنين كما طلب الطبيب، "انبهر الطبيب يوم الزراعة من وقوف الجميع معي وسعادتهم" تستذكر.

بعد ثلاثة أشهر من الحمل أجهضت، ثم حاولت ثانية فلم تنجح المحاولة، وأصرت على المحاولة الثالثة التي تكللت بالنجاح.

في آب/ أغسطس 2012، وضعت الممرضة وليدها بين ذراعيها كأنما أمسكت العالم بين يديها، تتأمل ملامحه، تنصت لصرخة الحياة لكن ما أحزنها أن عمار لم يكن بجانبها في هذه الفرحة، تمنت لو رأت ردة فعله عندما يشاهد ابنه مهند أول "سفراء الحرية" تلك النطفة المحررة التي خرجت من قلب السجن.

عندما أسر الاحتلال عمار الزبن كان عمر ابنته بشائر عامًا ونصف العام الآن تبلغ خمسة وعشرين عامًا من عمرها وتخرجت من تخصص أدب "انجليزي" تزوجت ولديها طفلة، أما ابنته بيسان فكانت جنينا في الشهر الرابع عند أسره، والآن تبلغ من العمر (23 عامًا)، وأصبحت مهندسة حاسوب، وتزوجت، ويثبت عمار الزبن أن الأسر، لم يبعده عن عائلته. 

أمضى "أبو مهند" خمسة وعشرين عامًا في الأسر، في أول خمس سنوات لم تستطع زوجته زيارته بحجة الرفض الأمني، وخلال فترة عقدين ونصف بلغت مجموع زيارات عائلته له عشر زيارات فقط، "نشعرهُ في كل مرة، أنه يزدادُ جمالاً في نظرنا، أبنائي يتعاملون مع والدهم أنه صديق".

بلغ مهند، 11 عامًا من عمره، كلما نظرت إليه والدته وكلما سمعت عن زوجات أسرى يولدون أطفالاً من نطف محررة ترفع أكف الدعاء لزوجها "كثيرا أدعو له، لأنه كان سببًا في إعمار بيوت الأسرى لأنه كان صاحب التجربة الأولى، فهناك أسرى سجنوا وحكموا مؤبدات ولم يكن لديهم أبناء قبل الأسر، الآن يخرجون ويرون بيوتهم عامرة بالأطفال، فلا يشعر أنه غاب عن بيته".

بالنسبة لها النطف المحررة، " انتصار على السجان، عندما ينجب من خلف الأسوار، هو انتصار لنا كعائلات، فهذه نعمة لأنه يعاني بين القضبان معزولًا عن العالم".

داهمت الدموع صوتها "تخيل أن خمسة وعشرين عامًا سرقت من عمرنا، عندما نجلس أنا وأبنائي على موائد الطعام وخاصة في رمضان تكون صورة والدهم أمامهم، معاناته ليست سهلة حتى على أولادنا، لكني أكابر، حتى لا أضعف أمامها، عندما يبدأ الفصل الدراسي كل طفل يصطحبه والده للمدرسة إلا هم يذهبون بمفردهم.

التجربة الثانية

عام 2014، قرر الزوجان خوض التجربة الثانية في الإنجاب عن طريق عملية الزراعة، لكن في ولادة صلاح الدين هنا قصة أخرى "رأى عمار في المنام شخصًا بملابس بيضاء يطلب منه الوضوء والصلاة والدعاء لله لإنجاب صلاح الدين، وعند زيارتي له قص علي الرؤيا ورحبت بالفكرة، وذهبت للطبيب لأننا كنا جمدنا عينة أثناء إجراء عملية زراعة لمهند وكانت ولادة صلاح الدين سهلة".

تزوجت بشائر وبيسان، وبقي مهند وصلاح الدين يملأن وحدة والدتهم، كعصفورين يغردان للحياة، الآن بلغ صلاح الدين من العمر ثماني سنوات (الصف الثاني الابتدائي)، لكن لم يخلُ الأمر من الطرافة والشكاوى المتبادلة لوالديهم أثناء اللعب مع شقيقه مهند.

بعد صلاة الجمعة، يرتدي مهند وصلاح الدين عباءة الصلاة، وبعد انتهائها يذهبان لزيارة شقيقتيهما بشائر القريبة من مكان مسجد الحي وبيسان، يطمئنان عليها، يسألانها إن كانت بحاجة لأي شيء، يشترون حاجات لطفلتها، يبتسم صوت والدتهم معلقةً "هذه تساوي الدنيا، أصبحا سندا لشقيقتيهما.

استثمر الأسير الزبن وقته في السجن بأفضل طريقة فإضافة لإنجاب مهند وصلاح الدين، حفظ القرآن الكريم ويعد لرسالة الدكتوراه، وأصبح أديبًا مرموقًا وله إصدارات أدبية منها، الطريق إلى شارع يافا، رواية "الزمرة"، "عندما يزهر البرتقال"، أيضًا في هذه ساندته زوجته "عندما أقرأ رواياته، أشعر بكل حرف كأنه يكتب لنا، أشعر بأن كنزًا بين يدي".